هل المشكلة في الحكام أم في المحكومين ؟؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
يقول الأطباء : أول طريق العلاج يبدأ بالتشخيص الصحيح ولو أن الطبيب أخطأ في تشخيص المرض لكان وصفه للدواء حتماً خاطىء وبالتالي سيبقى المريض على حاله , هذا إن لم يزدد سوءا
في زمننا هذا تم تلويث عقول الناس بأفكار سياسية ثورية لا تنطلق من فهم السلف الصالح للكتاب والسنة في الإصلاح , بل هي أفكار مستوردة من زبالات أفهام البشر في الشرق والغرب
فكثيرا , بل دائما تسمع وتقرأ أن ما يصيب الناس في أمور دنياهم مما يكرهون هو بسبب الحكام الظلمة المستبدين
وأن الأمة لن ينصلح حالها إلا بزوال هؤلاء الحكام ونشر العدل
والحق أن من يرددون هذا ( وما أكثرهم ) جهلة , هم كمن يعالج العرض ويترك حقيقة المرض
وأن الذين يجعلون الداء والدواء في الحكام يخدعون الناس ويخدروهم ويضلوهم
فانشغل الناس بالعمل السياسي من أحزاب ومنظمات , فضلا عن ظهور جماعات غلت في الدين واستخدمت العنف والقتل للوصول إلى السلطة بهدف الإصلاح ( زعموا )
فاتفق السواد الأعظم من علمانيين وإسلاميين حركيين على أن المشكلة تكمن في الحكام وإن اختلفت مناهجهم
اليساري والليبرالي والأخواني والقاعدي والتحريري الخ... يرون أن المشكلة في الحكام وأن الحل في تغييرهم !!
مع أن نصوص الكتاب والسنة تؤكد أن ما يصيب الناس مما يكرهون سواء من حكامهم أو من تسلط عدو عليهم إنما هو بما كسبت أيديهم
وأن الحكام ما هم إلا نتيجة لأفعال العباد , إن خيراً فخير وإن شراً فشر
يقول الله تعالى ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) [الأنعام : 129]
و يقول سبحانه ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) الآية
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم ( يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم) الحديث . رواه ابن ماجة والحاكم وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة
وسأنقل لكم ما قاله الأمامان الربانيان ابن تيمية وابن القيم في هذا الشأن لتعلموا أن دعاة الحرية والديمقراطية ليسوا على شيء , وأن ما تسمعونه دائما من أن فساد الأمة بسبب حكامها وأن صلاح الأمة بزوالهم هو قول باطل
لا أقول هذا دفاعاً عن الحكام , بل الحكام مسؤولون أمام الله عن رعيتهم , وما أعظم مسؤوليتهم , كما قال نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته , فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته ) الحديث . رواه البخاري ومسلم
حديثي هنا ليس عن المسؤولية إنما عن سبب تمكين حاكم قد يصدر منه ظلم أو تقصير في العدل أو استئثار بالمال أو فقر أو خوف أو سوء تدبير الخ... ولماذا يمكّن الله لحاكم كهذا
وبالتالي نهتدي إلى طريقة الإصلاح المبنية على الكتاب والسنة لا على الأفهام القاصرة , التي تنطلق معظمها من مطامع دنيوية بحتة وإن تزينت بشعارات الإصلاح
فمهما تغير الحكام , لن تصلح أحوال العباد إلا بصلاح العباد
يقول تعالى ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) [الشورى : 30]
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ( إقرأ وتأمل فالأمر غاية في الأهمية )
يقول
( وَتَأمل حكمته تَعَالَى فِي أن جعل مُلُوك الْعباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم بل كَأن أَعْمَالهم ظَهرت فِي صور ولاتهم وملوكهم
فَإِن استقاموا استقامت مُلُوكهمْ وَإِن عدلوا عدلت عَلَيْهِم وَإِن جاروا جارت مُلُوكهمْ وولاتهم وَإِن ظهر فيهم الْمَكْر والخديعة فولاتهم كَذَلِك وَإِن منعُوا حُقُوق الله لديهم وبخلوا بهَا منعت مُلُوكهمْ وولاتهم مَا لَهُم عِنْدهم من الْحق ونحلوا بهَا عَلَيْهِم
وَإِن أخذوا مِمَّن يستضعفونه مَالا يستحقونه فِي معاملتهم أخذت مِنْهُم الْمُلُوك مَالا يستحقونه وَضربت عَلَيْهِم المكوس والوظائف وَكلما يستخرجونه من الضَّعِيف يَسْتَخْرِجهُ الْمُلُوك مِنْهُم بِالْقُوَّةِ فعمالهم ظَهرت فِي صور اعمالهم
وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَة الإلهية ان يُولى على الأشرار الْفجار إلا من يكون من جنسهم
وَلما كَانَ الصَّدْر الأول خِيَار الْقُرُون وأبرها كَانَت ولاتهم كَذَلِك فَلَمَّا شابوا شابت لَهُم الْوُلَاة فَحكمه الله تأبى أن يولي علينا فِي مثل هَذِه الأزمان مثل مُعَاوِيَة وَعمر بن عبد العزيز فضلا عَن مثل أبي بكر وَعمر بل ولاتنا على قَدرنَا وولاة من قبلنَا على قدرهم
وكل من الأمرين مُوجب الْحِكْمَة ومقتضاها وَمن لَهُ فطنة إِذا سَافر بفكره فِي هَذَا الْبَاب رأى الْحِكْمَة الإلهية سائرة فِي الْقَضَاء وَالْقدر ظَاهِرَة وباطنة فِيهِ كَمَا فِي الْخلق والأمر سَوَاء
فإياك أن تظن بظنك الفاسد أن شَيْئا من أقضيته وأقداره عَار عَن الْحِكْمَة الْبَالِغَة بل جَمِيع أقضيته تَعَالَى وأقداره وَاقعَة على أتم وُجُوه الْحِكْمَة وَالصَّوَاب وَلَكِن الْعُقُول الضعيفة محجوبة بضعفها عَن إدْرَاكهَا كَمَا أن الأبصار الخفاشية
محجوبة بضعفها عَن ضوء الشَّمْس وَهَذِه الْعُقُول الضِّعَاف إِذا صادفها الْبَاطِل جالت فِيهِ وصالت ونطقت وَقَالَت كَمَا أن الخفاش إِذا صادفه ظلام اللَّيْل طَار وَسَار
خفافيش اعشاها النَّهَار بضوئه ... ولازمها قطع من اللَّيْل مظلم )
انتهى / مفتاح دار السعادة 1 /253-254
واقرأ ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( وتأمل )
( وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ عَلَى أَفْضَلِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِتَمَسُّكِهِمْ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ. ثُمَّ تَغَيَّرُوا بَعْضَ التَّغَيُّرِ بِقَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَخَرَجَتْ الْخِلَافَةُ النَّبَوِيَّةُ مِنْ عِنْدِهِمْ وَصَارُوا رَعِيَّةً لِغَيْرِهِمْ.
ثُمَّ تَغَيَّرُوا بَعْضَ التَّغَيُّرِ فَجَرَى عَلَيْهِمْ عَامَ الْحَرَّةِ مِنْ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَائِبِ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا فَلَيْسَ هُوَ أَظْلَمَ مِمَّنْ فَعَلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَا فَعَلَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}
إلى أن قال
( وَكَذَلِكَ الشَّامُ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ ثُمَّ جَرَتْ فِتَنٌ وَخَرَجَ الْمُلْكُ مِنْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ الْمُنَافِقُونَ الْمَلَاحِدَةُ وَالنَّصَارَى بِذُنُوبِهِمْ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَبْرِ الْخَلِيلِ وَفَتَحُوا الْبِنَاءَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَجَعَلُوهُ كَنِيسَةً. ثُمَّ صَلَحَ دِينُهُمْ فَأَعَزَّهُمْ اللَّهُ وَنَصَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ لَمَّا أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاتَّبَعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ. فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ قُطْبُ السَّعَادَةِ وَعَلَيْهَا تَدُورُ )
انتهى / مجموع الفتاوى 27 / 436-437
يحتج البعض بقول الألباني أن الحديث الضعيف ( كما تكونوا يولى عليكم ) معناه غير صحيح
إليكم ما قاله الشيخ الألباني رحمه الله في موضع آخر
( إذن، القضية ما لها علاقة بالحكام! لها علاقة قبل الحكام بالمحكومين. المحكومون هم في حقيقة أمرهم يليق بهم مثل هؤلاء الحكام، وكما يقولون: "دود الخل منه وفيه"، "دود الخل منه وفيه". هؤلاء الحكام ما نزلوا علينا من المريخ؛ وإنما نبعوا منَّا وفينا، فإذا أردنا صلاح أوضاعنا؛ فلا يكون ذلك بأن نعلن الحرب الشعواء على حكامنا، وأن ننسى أنفسنا. ونحن من تمام مشكلة الوضع القائم اليوم في العالم الإسلامي؛ لذلك نحن ننصح المسلمين أن يعودوا لدينهم، وأن يطبقوا ما عرفوه من دينهم؛ ويومئذ يفرحُ المؤمنون بنصر الله )
انتهى / سلسلة الهدى والنور
رقم الشريط: 760
هؤلاء أئمة أعلام لم تتلوث عقولهم ولا مشاربهم بالبدع ولا بلوثات الفكر السياسي المعاصر ولا بالأهواء والمطامع الدنيوية الرخيصة
هذا هو الداء وهذا هو الدواء
والله أعلم وأحكم وهو سبحانه الهادي إلى سواء السبيل
صحيفة الرؤية السلفية
تويتر @rslfi
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق