أحدث المواضيع

الأربعاء، 8 يوليو 2020

الدعوة السلفية و أثرها في تحقيق الأمن والاستقرار[5حلقات]


الدعوة السلفية و أثرها في تحقيق الأمن والاستقرار.
بقلم:الشيخ إبراهيم بويران الأخضري الجزائري
حفظه الله تعالى
إلى كلِّ مَن يَسعَى لتَحقِيقِ أَمنِ البِلادِ و استِقرَارِها و البَحثِ عَن حُلولٍ جِذرِيَّةٍ للمَشَاكِل الأَمنِيَّة: الدَّعوَةُ السَّلَفيَّةُ هِيَ الحَل !
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين و بعد:
فإن من أعظم ما تسعى إليه الشُّعوب عامَّة و ولاة أمورها خاصَّة، و يجدُّ الجميع في سبيل تحقيقه: الأمن والاستقرار، و ما يتبع ذلك من رغد العيش، وراحة البال، و طمأنينة النفس، حتى بات موضوع الأمن و كيفية تحقيقه هو الشغل الشاغل لكثير من دول العالم، الإسلامية وغير الإسلامية، وصار من أكبر مطالب الشعوب، والمجتمعات، لا سيما في هذه السنين الأخيرة حيث أينعت رؤوس الجماعات التكفيرية الثورية، التي أضرمت نيران الفتن والثورات في جسد هذه الأمة، مما أدَّى إلى زعزعةِ أمنِ واستقرارِ كثيرٍ من المجتمعات و الدول .
وقد اجتهد المجتهدون وشمَّروا عن سواعد الجدَّ في البحث عن السُّبل الكفيلة للوقاية من حدوث الفتن، وتحقيق الأمن، غير أنهم فشلوا في كثير من الأحوال والأماكن، وسبب ذلك أنهم أغفلوا عنصرًا مُهمًّا في المعادلة الأمنية، وتناسوا شريكًا فعَّالًا في تحقيق هذا المطلب العزيز، وركَّزوا على الحلول الأمنية و العسكرية، التي لم تكن ناجعةً إلى حدٍّ كبير، حيث إنها غالبًا ما تُعالِجُ آثار الفتنةِ ونتائجها، دون أسبابها ودوافعها .
و الذي ينبغي على السَّاعين في القضاء على الفتن واستتباب الأمن، أن يدرسوا الأوضاع من جميع جوانبها، فينهجوا نهج الطبيب الحاذق في معالجة المريض، حيث تجده يُوجِّه العلاج ابتداءً لسبب المرض، لقصد اجتِثَاثِه والقضاء عليه، لا للأعراض المترتبة عليه .
ولا يخفى أن لهذه الفتن التي تُثار على الأمة الإسلامية، أسبابٌ ونتائج، فمن غير الحكمة القفزُ إلى علاج الأعراض والنتائج، والإبقاء على الأسباب، فإن أعراض المرض وإن عولجت وقُضي عليها إلا أننا لا نأمن عودة المرض من جديد لأن سببه لا يزال قائما .
و الذي أريد إفهامَه لمن يسعى في تحقيق الأمن والقضاء على الفتن، أن الحلول الأمنية والعسكرية لا يمكنها لوحدِها أبدًا أن تُحقِّق هذا المطلب العظيم! لماذا؟
لأن سببَ هذه الفتن التي زعزعةِ الأمن والاستقرار: فِكرِيٌّ بالدرجة الأولى، فمَنشؤُه الأفكار التكفيريَّة المنحرفة، والمناهج التحريضيَّة الفاسدة، هي خزَّانته، ومصدر تموينه، والفكرة لا تُحارب بالقوة العسكرية .
فما يحصل من فتنٍ وثورات وقتلٍ وقتال، وسفكٍ للدماء وزعزعة للأمن، وغير ذلك من المشاكل العظيمة هو ثمرةٌ من ثمرات فكرٍ منحرفٍ هذه نتيجته، و تعتبرُ آخر مرحلةٍ من مراحِله، وهي مسبوقة بعددٍ من المراحل المُمهِّدة لها، ولا يمكن للحلول الأمنية والعسكرية أن تتدخل إلا بعد وصول هذا الفكر إلى آخر مراحله، فلذلك لم تكن ناجعةً ولا قاضيةً على المشكلة .
فلا بدَّ إذن من حلٍّ جذريٍّ لهذه المعضلة، ولن يتمَّ ذلك، ولن يتحقَّق إلا بدراسةً مُعمَّقة لمراحل هذا الفكر الثوري التكفيريّ، ومن ثمَّ علاجُ كلِّ مرحلة بما يُناسبها من الدَّواء .
وباستقراء العلماء لهذا الفكر المنحرف، خلصوا إلى أنه يمرُّ بثلاث مراحل أساسيَّة:
المرحلة الأولى: التَّنفير .
المرحلة الثانية: التكفير .
المرحلة الثالثة: القتل والتدمير .
أما المرحلة الأولى: فنَعنِي بالتَّنفير، التنفير عن العلماء السلفيين ومجالِسهم، وإسقاطهم عند الشباب، بالشُّبه الكاذبة، والاتهامات الباطلة، كرَمْيهم كذبًا وزورًا بأنهم عملاء للحكام والأمراء، أو بأنهم لا يفقهون الواقع المعاش، أو بأنهم عبيدٌ للحكام يتقربون إليهم بالفتاوى التي تخدم مصالحهم، إلى غير ذلك من الافتراءات التي قصدهم منها صرف الشباب عن العلماء الناصحين الرَّبَّانيِّين، الذين يأخذون بأيدي الشباب إلى الخير، ويُحذِّرونهم من الشَّر والفتن، و من مفتعليها من التكفيريِّين الثَّوريِّين وغيرهم، لأن العلماء الربَّانيِّين السلفيِّين عند هؤلاء الثوريِّين حجرُ عثرةٍ في طريقهم، يُفسدون عليهم مخطَّطاتهم، ويكشفون شُبههم، ويُطفئون نيرانهم التي يسعون في إيقادها على هذه الأمة، فلذلك كانت أُولى مراحل فكرهم الطعن في العلماء الربَّانيين والتنفير عنهم وإثارة الشبهات حولهم، حتى يخلوا لهم الجوُّ، و يتمُّ لهم الانفراد بالشباب، و لك أن تتصوَّر حالَ قطيعِ الغنم إذا انفردت به الذِّئاب! .
و من مُخططاتهم في هذه المرحلة زيادةً على تنفيرهم عن العلماء الربانيين: تلميعهم لبعض الدعاة المنحرفين الثَّوريِّين بالهالات الإعلاميَّة الكاذبة، و سعيهم في ربط الشباب بهم، بإضفائهم الألقاب الضخمة، و جعلهم بديلًا لمن أسقطوهم من العلماء .
فإذا تمَّ لهم ما أرادوا من تسليم زمام أمر الشاب إلى دعاة الشَّرِّ و الفتنة، و حجبِهم عن العلماء شرع هؤلاء الدُّعاة في مهمتهم القذرة، بتلقين الشباب و تغذيتهم بالأفكار التكفيريَّة، وتهييجهم ضدَّ ولاة الأمور والحكام، بذكر مثالبهم، ونشر أخطائهم، في المجامع العامة، و في الدروس و المجالس و الخطب، و في كلِّ موضعٍ تُتاح لهم فيه مثل هذه الفرصة .
حتى إذا ارتوت قلوب الشباب من الأفكار التحريضية التكفيرية، و امتلأت قلوبهم غيضًا على الحكام، سهُل بعد ذلك نقلهم إلى المرحلة الثانية من مراحل هذا الفكر، و هي:
« مرحلة التكفير »، وهي المرحلة الأساس التي يتولَّد منها الخروج و القتل والتدمير؛ لأن اعتقاد كفر الحاكم ومن معه، معناه انتفاء الحرمة عن دمه وعرضه، وأنه حلال الدَّم والمال، فيندفع هؤلاء الثَّوَّار بعد الوصول إلى هذه النتيجة لمبارزة الحاكم و مقاتلته، لقصد إزالته وتنحيته، بدعوى أنَّ وِلايته على المسلمين باطلة لِكُفرِه، بل هي منكرٌ يجب إزالته، ولا يتم ذلك إلا بالخروج عليه، فحينذاك يحصلُ ما يحصلُ من الفتن العظيمة التي تؤدي إلى زوال الأمن وسفك الدِّماء .
و أما المرحلة الثالثة: من مراحل الفكر التَّكفيريّ الثَّوريِّ، فهي الخروج و القتل والتدمير و التخريب، وهي نتيجة هذا الفكر المنحرف، و مآله الذي يؤول إليه، و آخرُ مراحله، ولا يصل إلى هذه المرحلة إلا من تشبَّع بالشبه التكفيريَّة وأُشربها قلبه، و هذه هي المرحلة التي يمكن أن تُعالج بالحلول الأمنية والعسكرية، على أنه يمكن تفادي الوصول إليها أو التَّخفيف الكبير من حِدَّتها و خطرها بعلاج ما قبلها من المراحل التي هي سببها و منبعها .
فإذا تأمَّلنا هذه المراحل الثلاث التي يمرُّ بها الفكر الثوري التكفيريّ، حقَّ التأمُّل وجدناها تنقسم في الجملة إلى قسمين: أسبابٌ، ونتائج .
أما الأسباب فتتمثَّل في المرحلة الأولى والثانية، وأما النتائج فهي المرحلة الثالثة .
وسبق أن بيَّنَّا بأن الحكمة تقتضي توجيه العلاج ابتداءً إلى سبب المرض لا إلى أعراضه ونتائجه .
لكن من هو الطبيب الحاذق الذي ينبغي أن توكَل إليه مهمة علاج داءِ هذه المراحل و اجتثاثه من أصله، و استئصال ورَم هذه الأسباب؟ وهل الوسائل و الحلول الأمنية والعسكرية كفيلة بمعالجة هذه المراحل والأسباب، و هل في مقدورها ذلك؟
والجواب بداهةً يكون، بلا؛ إذ لا يمكن لهذه الوسائِل الأمنية أن تعالج الأفكار، فلم يبق إذن إلا الأطبَّاء الحُذَّاق وهم في هذا الميدان بلا منازع! علماء السنة، ودعاة الهدى، الذين يُبيِّنون فساد تلك الأفكار والمناهج بالبراهين الشرعية و الدلائل العقلية، من الكتاب والسنة وآثار السلف، و صريح المعقول .
فيدمغون بحُجَجِهم أباطيل الثَّوريِّين و شبهاتهم، فيفتضح أمرهم، وينكشف باطلهم، فلا تنفُق في الناس عندها شبهاتهم .
فالمراحل الأولى من الفكر الثَّوري لا علاج لها إلا بالعلم و الدعوة، و أطبَّاؤها هم الدعاة الأمناء والعلماء الثقات، لا سيما إذا عرفنا بأن من يقوم بالتَّنظير للمرحلة الأولى والثانية من الفكر الثَّوري هم من يُلَقَّبون بالخوارج القعدة، وهم عبارة عن مجموعة من المُهيِّجين المُلبِّسين المُحرِّضين، ممن أوتوا فصاحة وبيانًا وقوةً على الإقناع، و قدرة على عرض الشُّبه وإثارة العواطف و استمالة الناس .
فهؤلاء كما قال أهل العلم: يُزيِّنون الخروج على الحكَّام، ولكن لا يباشرونه، فهم أوَّل من يجب أن يُتصدَّى له، لأنَّهم خزَّان الخوارج، ومنبع فتنتهم، و مصدر إمدادهم، وهذا إنما هو دور العلماء وميدانهم، و مِنْه نعلم عظيمَ دور العلماء والدُّعاة السَّلفيِّين، في القضاء على المرض قبل تفاقمه و انتشاره و نخره في جسد الأمة، وذلك بتربية الناس على الإسلام الصحيح، و توعية الشباب من الأفكار الهدامة و المناهج المنحرفة، و نشر العقائد الصحيحة السليمة، و المناهج السَّديدة، وفضح القعدة من الخوارج التكفيريِّين و التصدي لهم، و التَّحذير منهم ومن شبهاتهم و تهييجاتهم، وكشف أباطيلهم، فإذا تمَّ تحييد شرِّ هؤلاء، و إضعافه لم تكن نتائج هذه الفكر بتلك الخطورة، و لم يكن علاجها بتلك الصعوبة، و عندها يمكن الحديث عن تحقُّق الأمن و قطع دابر الفتن .
وهذا كلُّه لا يحصلُ إلَّا بالتعاون الصادق مع علماء السنة ودعاتها، و ذلك بتمكينهم من مختلف وسائل الدعوة، حتى تصِل توجيهاتهم ونصائحهم وإرشاداتهم إلى أكبر قدرٍ ممكنٍ من طبقات الأمة و شرائحها و أفرادها، و حينها تنقشع سحابة شبهات الثَّوريِّين، وغيرهم من أهل الفتن والضلال، و تتهاوى مخطَّطاتهم، فيَنفضُّ الناس من حولهم، و يتركونهم، وهذا هو المطلوب .
فصِمام الأمان الأول هو ربط الناس بالعلماء و المشايخ النَّصَحةِ الأمناء، و لا يكون ذلك إلا بتمكين هؤلاء المشايخ السلفيين من وسائل الدعوة التي من خلالها يتقربون من الشباب أكثر، و يكون تأثيرهم فيهم أكبر، و أسُّ هذه الوسائل هي المساجد، فليفهم هذا من يسعى لتحقيق أمن البلاد و استقرارها، و ليعلم أن أكبر شركائه في هذا المطلب العزيز، هم: أهل السنة و الجماعة و دعوتهم المباركة .
و الله أعلم، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
مقالٌ مختصرٌ أفردته من رسالةٍ لي تحت الإنجاز، بعنوان " الدعوة السلفية و أثرها في تحقيق الأمن و الاستقرار "، يسَّر الله إتمامها، و نَفَعَ بها .

إلى كلِّ مَن يَسعَى لتَحقِيقِ أَمنِ البِلادِ واستِقرَارِها و البَحثِ عَن حُلولٍ جِذرِيَّةٍ للمَشَاكِل الأَمنِيَّة: الدَّعوَةُ السَّلَفيَّةُ هِيَ الحَل !(الحلقة الثانية)
لكاتب التصفية الشيخ إبراهيم بويران -حفظه الله-
إن للفتن - لا سيما منها الدَّمويَّة التي تُسبِّب زعزعة الأمن و زوال الاستقرار- أسبابٌ تُمِدُّها، ومنابعُ كثيرة تُغذِّيها، و لن يتحقَّق أمنٌ لأيِّ مجتمعٍ كان مالم تُجفَّف هذه الينابيع، وتُعطَّل هذه الأسباب .
وسأعرض عددًا من هذه الينابيع المغذية للفتن، المؤدية إلى زوال الأمن، ومن خلالها نُبرز دور الدعوة السلفية و علمائها و دعاتها في تجفيف هذه المنابع، و القضاء على هذه الأسباب .
الينبوع الأول
الخروج على ولاة أمر المسلمين، وشق عصا الطاعة
و فيه ثلاثة مباحث مختصرة، نعالج فيها عددًا من المواضيع التي يعتبر الإخلال بها من أعظم الأسباب في حدوث الفتن، وزوال الأمن، و زعزعة الاستقرار .
المبحث الأول: في بيان عقيدة أهل السنة السلفيين في ولاة أمر المسلمين القائمة على الأدلة الشرعية، من خلال كتب العقائد المعتمدة عندهم .
المبحث الثاني: تحذير أهل السنة السلفيين من الخروج على ولاة الأمر، وإحداث الفتن والثورات، والتَّذكير بالنصوص الشرعية النَّاهية عن ذلك .
المبحث الثالث:موقف أهل السنة السلفيين مما قد يحصل من الحكام من استئثار بالأموال والمناصب.
المبحث الأول
في بيان عقيدة أهل السنة السلفيين في ولاة أمر المسلمين من خلال كتب العقائد المعتمدة عندهم .
لما كان السبب المباشر والرئيس في كثير من الفتن الدائرة في البلاد العربية والإسلامية التي أدت إلى زعزعة أمن الناس واستقرارهم، هو الخروج على ولاة الأمر ومنازعتهم، وخلع يد الطاعة، الذي تتبناه وتدعوا إليه الجماعات الثورية التكفيريَّة، كان لابد من بيان عقيدة أهل السنة والجماعة السلفيين في ولاة الأمور والحكام، وكيفية معاملتهم لهم، وذلك من خلال كتب العقائد المعتمدة عند السلفيين والتي تعتبر مراجعهم التي يستقون منها عقائدهم ومناهجهم، في هذا الباب وغيره من أبواب الدين .
فنبدأ أولا: برسالة " أصول السنة " لإمام أهل السنة والجماعة السلفيين أحمد بن حنبل رحمه الله، (ت سنة: 240 هـ ) الذي اتفق أهل السنة على جلالته وإمامته والسير على منهجه وطريقته في الأصول، حيث قرَّر في رسالته المذكورة (ص3)، أن من أصول أهل السنة السلفيين: « السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به ومن ظهر عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الإمام إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك، وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماض ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة من دفعها إليهم أجزأت عنه برًّا كان أو فاجرا، وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاه جائزة باقية تامة ركعتين من أعادهما فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة ليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا برهم وفاجرهم، فالسنة بأن يصلي معهم ركعتين وتدين بأنها تامة لا يكن في صدرك من ذلك شيء .
ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كانوا اجتمعوا عليه وأقروا بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو الغلبة فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية، ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق » انتهى كلام الإمام أحمد رحمه الله .
* فتأمل كيف أن إمام أهل السنة صرَّح بتحريم الخروج على ولاة الأمور أبرارًا كانوا أم فجارًا، وأن من فعل ذلك فقد شق عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات على ذلك مات ميتة جاهلية، وأنه بخروجه على ولاة الأمر وإثارة الفتن على المسلمين يعتبر من أهل الأهواء والبدع، خارجًا عن جماعة أهل السنة، ومراده رحمه الله واضح في أن أهل السنة لا يدينون بالخروج على ولاة أمر المسلمين ولا يفعلونه، بل يحرمونه أشد التحريم، فمن فعل ذلك فليس منهم وإن زعم وادَّعى أنه منهم و جهد نفسه في الالتصاق بهم و الانتساب إليهم .
ثانيًا: الإمام الصابوني رحمه الله (ت سنة: 449هـ) وهو من أئمة أهل السنة والجماعة، في رسالته التي بعنوان " عقيدة السلف وأصحاب الحديث "، وهي من المراجع المعتمدة في العقائد عند أهل السنة ، قال فيها مبيِّنًا عقيدة أهل السنة والجماعة السلفيين في ولاة أمر المسلمين (ص32):« و يرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام براً كان أو فاجراً، ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح وبسط العدل في الرعية، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف، ويرون قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل »انتهى .
ثالثًا: الإمام الطحاوي رحمه الله(ت سنة: 321 هـ) وهو من أئمة أهل السنة، في رسالته " العقيدة الطحاوية "(ص:68 )، وهي أيضًا من أمهات المراجع المعتمدة عند أهل السنة السلفيين في العقائد، و التي ينقلها عن أئمة أهل السنة والجماعة، قال فيها:« و لا نرى- يعني: معشر أهل السنة- الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدًا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز و جل فريضة ما لم يأمروا بمعصية و ندعوا لهم بالصلاح والمعافاة »انتهى.
رابعًا: الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله (ت سنة 620 هـ ) وهو من أئمة أهل السنة كذلك، قال في رسالته " لمعة الاعتقاد "(ص40) التي نقل فيها اعتقاد أهل السنة والجماعة:« ومن السنة: السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به،أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة، و سمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين »انتهى .
* وقد نقل غير واحد من الأئمة إجماع أهل السنة السلفيين على تحريم الخروج على الحكام وإن كانوا ظلمة، أو فسقـة، للأحاديث الناهيـة عن الخروج الآمرة بالصبر على جور الأئمة، ولما يترتب على ذلك من الفتن، والشرور .
وممّن نقل الإجماع على ذلك العلامة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمان بن حسن آل الشيخ، و هو أحد أحفاد إمام الدعوة السلفية في الزمن المعاصر، الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي رحمه الله، قال رحمه الله كما في" مجموعة الرسائل والمسائل النجدية " (3/ 168) : « وأهل العلم ... متفقون على طاعة من تغلَّب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه وصحَّة إمامته، لا يختلف في ذلك اثنـان، ويرون المنع من الخروج عليهم بالسيف وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة فسقة، ما لم يروا كفرًا بواحًا، ونصوصهم في ذلك موجودة من الأئمة الأربعة وغيرهم، وأمثالهم ونظرائهم »انتهى .
* فإذا عرفنا عقيدة أهل السنة والجماعة السلفيين التي أجمعوا عليها في ولاة أمر المسلمين، والتي ملخصها: وجوب السمع والطاعة لهم في غير معصية الله تعالى، وتحريم الخروج عليهم، والتحذير من ذلك لمخالفته للأدلة الكثيرة الناهية عن الخروج، الآمرة بالسمع والطاعة في المعروف، وتذكَّرنا ما ذكرناه آنفًا من الأسباب المؤدية إلى الفتن والثورات والانقلابات، والتي من أعظمها الخروج على ولاة الأمر، ومنازعتهم، علمنا يقينًا، وظهر لنا جليًّا الأثر العظيم والمهم للدعوة السلفية في تحقيق أمن الشعوب والدول واستقرارها، كيف لا! وهي تسد أكبر فجوة و ثغرة تتفجَّر منها الفتن والثورات، فتقف سدًّا منيعًا في وجوه أهلها، و تكون حجر عثرةٍ لهم تحول بينهم و بين ما يشتهون من الفتن و الشرور .
المبحث الثاني
تحذير أهل السنة السلفيين من الخروج على ولاة الأمر، و من إحداث الفتن والثورات، وتَذكير الناس بالنصوص الشرعية النَّاهية عن ذلك
السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين، و النهي عن الخروج عليهم، و الأمر بالصبر على جورهم و ظلمهم، أصل من أصول العقيدة السلفية، قلَّ أن يخلو كتاب من كتب العقائد المعتمدة عند أهل السنة من تقريره وشرحه وبيانه، وما ذاك إلَّا لبالغ أهميته، وعظيم شأنه، قال بعض السلف: « بالسمع والطاعة لهم تنتظم مصالح الدِّين والدُّنيا معًا، و بالافتيات عليهم قولا أو فعلا فساد الدِّين والدنيا ».
و قد سبق نقل إجماع أهل السنة والجماعة على تحريم الخروج على الحكام و إن كانوا فجَّارًا أو ظلمة، للأحاديث الناهيـة عن الخروج الآمرة بالصبر على جور الأئمة من جهة، ولما يترتب على ذلك من الفتن، والشرور، من جهة أخرى، وصار هذا الأصل من أهم الأصول التي باين بها السلفيون فرق الضلال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو من كبار أئمة الدعوة السلفية، كما في " مجموع الفتاوى " (35/ 12): « وأمَّا أهل العلم والدين والعقل فلا يُرخِّصُون لأحدٍ فيما نهى الله عنه، من معصية ولاة الأمور، وغشِّهم، والخروج عليهم، بوجه من الوجوه، كما قد عرف من عادات أهل السنة والدِّين قديما وحديثـًا، ومن سيرة غيرهم »انتهى .
تطبيقاتٌ عمليَّةٌ من قبلِ أهلِ السُّنَّة والجماعة السَّلفيين لِعقيدَتهم في حكامهم و ولاة أمورهم
لما كان الواقع أكبر شاهدٍ كما يُقال، و فيه تصديق عمليٌّ لما سطرته آنفًا و نقلته عن أهل السنة من كتبهم المعتمدة، في إيجابهم السمع و الطاعة لولاة الأمور، و تحريم الخروج عليهم أو إثارة الفتن حولهم، حتى ولو حصل منهم تجاههم أو تجاه عموم رعيتهم ظلمٌ أو بغيٌ أو عدوان، أحببت أن أُردف ذلك بذكر بعض الوقائع المصدقة لادعائي الذي ادعيته، فإن الدعاوى إنما تثبت بالبينات و إلا فأهلها أدعياء .
و لعل من أعظم الوقائع التي تبيِّن تمسك أهل السنة والجماعة السلفيين بعقيدتهم في ولاة الأمر وتطبيقهم لها في أرض الواقع، حتى في حال حصول شيء من الظلم والعدوان من قبل ولاة الأمور، ما حصل من إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله في زمن المحنة، التي كان بطلها الخليفة المأمون، و بعده أخوه المعتصم، ثم ابنه الواثق الذين تأثروا بعقيدة الجهمية والمعتزلة في القرآن، أنه مخلوق وليس بكلام الله، فكانوا يلزمون الناس بهذه العقيدة الفاسدة، ويجبرونهم على اعتقادها والقول بها، وألزموا العلماء بنشر هذه العقيدة الباطلة والتصريح بها، ونكَّلوا بمن أنكرها منهم، أو حذَّر منها، وبيَّن بطلانها ومخالفتها لعقيدة المسلمين المستمدة من الكتاب والسنة: أن القرآن الكريم كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود .
وكان من أولئك العلماء الذين اشتدت أذيتهم لهم: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فقد لقي منهم صنوفًا من ألوان العذاب والتنكيل، حتى مُنع من الفتوى والتدريس، بسبب رفضه لهذه العقيدة الباطلة، وصدعه بالحق، ومع كل هذا الذي لقيه منهم من الظلم والبغي والعدوان فقد كان ينهى أشد النهي عن الخروج عليهم إذا استُفتي في ذلك ويأمر بالصبر وعدم إثارة الفتن على الناس .
فقد روى الخلال في " السنة " (رقم89) قال: أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر أن أبا الحارث حدثهم قال سألت أبا عبدالله- يعني: أحمد بن حنبل- في أمر كان حدث ببغداد وهمَّ قوم بالخروج فقلت يا أبا عبدالله: ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟ فأنكر ذلك عليهم، وجعل يقول: « سبحان الله! الدماء الدماء؛ لا أرى ذلك، ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يسفك فيها الدماء ويستباح فيها الأموال وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه - يعني أيام الفتنة-؟»، قلت: والناس اليوم أليس هم في فتنة يا أبا عبدالله؟ قال: « وإن كان فإنما هي فتنة خاصة فإذا وقع السيف عمت الفتنة وانقطعت السبل الصبر على هذا ويسلم لك دينك خير لك »ورأيته ينكر الخروج على الأئمة، وقال: « الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به » انتهى .
و قال الخلال أيضًا في " السنة " ( رقم89): وأخبرني علي بن عيسى قال: سمعت حنبل يقول: في ولاية الواثق اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبدالله- يعني: الإمام أحمد- أبو بكر بن عبيد و إبراهيم بن علي المطبخي وفضل بن عاصم، فجاؤوا إلى أبي عبدالله، فاستأذنت لهم فقالوا: يا أبا عبدالله! هذا الأمر قد تفاقم وفشا- يعنون إظهاره لخلق القرآن - وغير ذلك فقال لهم أبو عبدالله: فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورك في أنَّا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فناظرهم أبو عبدالله ساعة وقال لهم: عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر » ودار في ذلك كلام كثير لم أحفظه ومضوا .
ودخلت أنا وأبي على أبي عبدالله بعدما مضوا فقال أبي لأبي عبدالله: نسأل الله السلامة لنا ولأمة محمد وما أحب لأحد أن يفعل هذا، وقال أبي: يا أبا عبدالله، هذا عندك صواب؟ قال: « لا؛ هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر »، ثم ذكر أبو عبدالله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن ضربك فاصبر.. و إن.. و إن.. فاصبر »، فأمر بالصبر » انتهى .
* إن هذه المواقف السلفية الواقعية العظيمة لإمام أهل السنة والجماعة السلفيين أحمد بن حنبل رحمه الله تجاه ولاة أمر المسلمين، لا سيما في وقت اشتد أذاهم وظلمهم له ولجميع الأمة، وأمره مع ذلك بالصبر، وتحذيره من الخروج عليهم، وإثارة الفتن والانقلابات، لمن أعظم ما يدل على بعد أهل السنة السلفيين عن الفتن والثورات، حتى في أحلك الظروف، حفاظا على أمن الناس واستقرارهم، وحقنًا لدمائهم، وصيانةً لأعراضهم، و درءًا للشرور و الفتن عنهم .
وهكذا تجد مواقف السلفيين عبر التاريخ و في كل زمان ومكان موافقة للكتاب والسنة ولمواقف إمامهم المنبل أحمد بن أحنبل رحمه الله، وغيره من الأئمة .
فحريٌّ بمن يسعى في تحقيق أمن الأمة واستقرارها أن ينظر إلى هذه المواقف السلفية بعين الاعتبار .
المبحث الثالث
موقف أهل السنة السلفيين مما قد يحصل من الحكام من استئثار بالأموال والمناصب، و منعٍ لحقوق الرعية
من أكبر المداخل التي يسعى الثوريون التكفيريون لاستغلالها في تجييش قلوب الناس على ولاة أمرهم، و من أعظم الفرص التي يحاولون انتهازها لتحريض الناس على الفتن و الثورات، و إحداث الانقلابات، ما قد يحصل من ظلم و بغيٍ من قبلِ ولاة الأمر على رعيتهم، و استئثارهم بالأموال و الخيرات و المناصب دونهم، و منعهم الناس من كثير من حقوقهم، فيجد حينها دعاة الفتن و الثورات الفرصة مواتية لإيقاد نيران الفتنة، و بلسان حالهم يقولون: لا سمع و لا طاعة إلا بالعطاء، فيجعلون سمعهم و طاعتهم لولاة الأمر معاوضة على العطاء، فمتى ما قُطع عنهم العطاء خلعوا أيديهم من الطاعة و شقوا عصا الجماعة، و أحدثوا الفتن، و حرَّضوا على الشرور .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في " مجموع الفتاوى "(35/16): « و من كان لايطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية و المال فإن أعطوه أطاعهم و إن منعوه عصاهم فماله في الآخرة من خلاق »انتهى .
و في مثل هؤلاء قال صلى الله عليه وسلم: « ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم ، وَلَهُم عَذَاب أَلِيم.. »، و ذكر منهم:« وَ رجلٌ بَايع رجلًا لَا يبايعه إِلَّا للدنيا ، فَإِن أعطَاهُ مَا يُرِيد وفّى لَهُ ، وَإِلَّا لم يَفِ لَهُ »[ الحديث أخرجه البخاري(2672) و مسلم(293) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .
فهذه هي بيعة أهل الأهواء قائمة على المعاوضة، فهي أشبه ما تكون بالأخوة الزائفة المبنية على المصلحة، فمتى ما زالت المصلحة زالت الأخوة، و الله المستعان!
أما أهل السنة فإن بيعتهم ليست ثمنًا للعطاء، و لا هي مقصورة على هذه الحال، بل هي واجبةٌ عندهم في المنشط و المكره، و في العسر و اليسر و الأثرة .
قال شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله.
و من الشواهد الواقعية على ما قاله شيخنا، ما حصل مؤخرًا في بلادنا في ما يسمى بقضية غلاء الأسعار، و ما تبعها من خفضٍ لأجور بعض الموظفين، و منع البعض الآخر من بعض الامتيازات التي كانوا يحصلون عليها، حيث خرج دعاة الفتنة من جحورهم مستغلين الوضع لدقِّ طبول الفتنة، و الَّتحريض العلنيِّ على العنف و الثورة، بدعوى الحرمان من الحقوق! و استئثار الحكام بخيرات البلاد، و ..، و.. إلخ .
و قد رآى الجميع كيف وقف مشايخ السلفية في وجوههم، محذرين منهم ومن فتنتهم، مذكرين الناس بمآلات الفتن، و بما تعيشه الآن كثيرٌ من الدول الإسلامية من أوضاع مأساوية جراء انصياعهم لأمثال هؤلاء، و اغترارهم بهم و بدعواتهم المدمرة .
كما حثَّ مشايخ السلفية الناسَ على الصبر، و على التوبة و الاستغفار، و أفهموهم بأن ما حلَّ بهم إنما هو من جملة المصائب التي هي من آثار الذنوب، و مفاسد المعاصي، و نتاج الآثام، و الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، و يصلحوا من حالهم .
فلم يكتف أهل السنة بمجرد الصبر في أنفسهم و لزوم الصمت، و هم من جملة من تأذَّى و تضرَّر! بما حصل من رفع الأسعار، و غلاء المعيشة، بل بذلوا الجهود العظيمة لتوعية الناس، و إفشال مخططات دعاة الفتنة، و تفويت الفرصة عليهم .
كلُّ ذلك انطلاقًا من قناعاتهم الراسخة، و عقائدهم الصافية الزكية، و منهجهم السليم القويم، و تأسيًا كذلك منهم بأئمة أهل السنة السالفين، وكبار علماء السلفية الماضين، فهو دين تلقوه خلفًا عن سلف .
فيا لها من نعمةٍ تفضل بها الرب المنعم على هذه البلاد، بوجود هذه الدعوة الأصيلة المتجذِّرة في ربوعها، فلن تعدم الأمة خيرًا ما دام رأس هذه الدعوة فيها مرفوعًا، و رايتها فيها مُرفرِفة .
.......يتبع بمشيئة الله تعالى و قوته .



إلى كلِّ مَن يَسعَى لتَحقِيقِ أَمنِ البِلادِ واستِقرَارِها والبَحثِ عَن حُلولٍ جِذرِيَّةٍ للمَشَاكِل الأَمنِيَّة:
الدَّعوَةُ السَّلَفيَّةُ هِيَ الحَل

(الحلقة الثالثة)
رابط المشاهدة :
* فصل *
جهود مشايخ السَّلفية في استتباب الأمن و الاستقرار، و درء الفتن والثورات و الحيلولة دون حدوثها.


لمشايخ الدعوة السلفية جهود مباركة، و مشاركةٌ فعَّالة، و إسهامٌ كبيرٌ في تحقيق أمن الجزائر و استقرارها، و دفع الفتن عنها و عن أهلها، يتجلى ذلك في مواقفهم من الفتن التي أُضرمت نيرانها على هذه البلاد ، بدءًا بما يُسمى بفتنة الإرهاب، و العشرية السوداء، و مرورًا بأحداث الربيع العربي، و مظاهرات الغلاء و ارتفاع الأسعار، و غيرها من الأزمات، و وصولًا إلى ما يُسمى بالحراك الشعبي الذي نعيش وقائعه هذه الأيام .
أمَّا بالنسبة لفتنة الإرهاب، و أحداث العشرية السوداء، فقد كان لعلماء الدعوة السلفية، في عودة الأمن والاستقرار إلى هذه البلاد دورٌ عظيمٌ لا ينكره إلَّا مُكابرٌ ناكٌر للمعروف، أو من يريد- تغطية الشمس بالغربال- كما يقال .
و لا أدلَّ على ذلك من فتاويهم التي أصدروها في تحريم الثورات والقتال والعنف، و الخروج على الحاكم، قبل العشرية السوداء و أثناءها وبعدها، وكذا خطاباتهم ونصائحهم التي توجَّهوا بها إلى الجماعات المسلحة بعدم الخروج وإثارة الفتن والفوضى، قبل خروجهم، وبوجوب وضع السلاح وترك العنف، و النزول من الجبال بعد خروجهم، وقد كان لفتاويهم، سيما بعد وصولها إلى الجماعات المسلحة صدًى عظيمًا حيث أثمرت -بفضل الله تعالى-استجابة كثير منهم لنداءاتهم ونصائحهم، ومن ثمَّ نزولهم من الجبال وتركهم القتال، فكانت نتيجة ذلك عظيمة على هذه البلاد، حيث توقف مسلسل العنف بشكل شبه نهائي، وعمَّ الأمن والأمان ربوع البلاد، واستقرت فيها الأوضاع .
و من تلكم الفتاوى و التوجيهات: فتاوى الأئمة الثلاثة و هم كبار علماء السلفية في هذا العصر؛ العلامة الألباني، و العلامة ابن باز، و العلامة ابن عثيمين  جميعًا، و هي منشورة مقروءة و مسموعة- و قد جمعها بعضهم في كتاب مُفرد .
دون أن ننسى فتاوى و توجيهات إخوانهم من العلماء كالعلامة مقبل بن هادي الوادعي ، و العلامة ربيع المدخلي حفظه الله، و غيرهما .
و قد نوَّه مشايخ السلفية في الجزائر، بهذه الجهود الجبارة لعلماء السلفية في إخماد فتنة الجزائر، كما تراه في بيانهم " هل السلفية خطر على الجزائر " .
فقد جاء فيه ما يلي:« فالسَّلفية هي الدِّرعُ الحصين الَّذي حُفِظ به دين هذه الأمَّة مِنْ زمن أبي بكرٍ  أيَّامَ الرِّدَّة، ومرورًا بمحنة خلق القرآن أيَّامَ الإمام أحمد  و وصولاً إلى زمَن الإمام ابن تيمية  في فتنة التَّتار، وانتهاءً بزمننا هذا وبخاصَّةٍ في بلدنا العَزيز، أيَّام عهد جمعيَّة العلماء المسلمين الجزائريِّين بجيلها السَّلفيِّ المتميِّز؛ من أمثال ابن باديس والإبراهيميِّ والعقبيِّ والتبسيِّ ومبارك الميليِّ ـ  ـ وغيرهم .
وإلى أنْ عصفت بديارنا رياحُ الفتنة والهَرْج الَّتي أفسدت الحرثَ والنَّسل، وغُرِّر ـ وقتئِذٍ ـ بكثيرٍ مِن الشَّباب، فحملوا السِّلاحَ وصعدوا الجبال، ولم يتراجع منهم عن فكر الخوارج، ولم يَسْلَم غيرُهم مِن التَّلوُّث بهذا الفكر الخبيث أصلًا إلَّا بفتاوى ونصائحِ وتوجيهاتِ علماء الدَّعوة السَّلفيَّة في هذا العَصر؛ مِن أمثال الشَّيخ ابن بازٍ، والشَّيخ الألبانيِّ، والشَّيخ ابن عثيمين  جميعًا »انتهى .
* و يُؤكد هذه الحقائق و يُؤيِّدها؛ شهادات بعض رؤوس المقاتلين، التي يعترفون فيها بأنَّهم ما كفُّوا عن القتال، و لا نزلوا من الجبال، إلا استجابة لنداء العلماء السلفيين، و من ذلك شهادة أحد الضباط التائبين التي نقلتها جريدة " الصحافة" [ "العدد "(112)، بتاريخ: 2 جمادى الثانية 1420هـ، الموافق لـ 12 ـ 9 ـ 1999م ، (ص:3) -منقول-] تحت عنوان:« شهادة من الضابط الشرعي لـ " كتيبة الموت " بالمنطقة الغربية، و مما جاء فيها:
« يُثير المدعو عبد الحميد قضيةَ اقتناعهم بالتوبة، مشيراً إلى خطابات رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة التي استمعوا إليها بشَغَف كما يقول، وقد فَهِمنا منها وجود ضمانات للتسليم، لكن الاقتناع في حدِّ ذاته من خطابات الرئيس لم يكن ليتجاوز- 40 بالمائة - في كلِّ الأحوال، يضيف الضابط للجماعة مؤكِّداً أنَّ الوسيلةَ الوحيدةَ للاقتناع بالتوبة والتسليم تبقى للرسائل والفتاوى لأشهر علماء السلفية، وعلى رأسهم المرحوم ابن باز، والعثيمين، وناصر الدين الألباني» .
* و هذه شهادةٌ أُخرى من عدوٍّ-و إن قصد بها الذَّم- و لكن كما قيل:
و إذا أتتك مذمَّتي من ناقص *** فهي الشَّهادة لي بأنِّي كاملٌ

وأقصد بالعدو، أحد رؤوس الخوارج القعدة الثوريين-في العصر الحديث-، و هو المدعو أبو مصعب السوري، فقد قال في كتاب له بعنوان " دعوة المقاومة " (ص768):« السلفيون: و الذين كانت شريحة كبيرة منهم على قواعد الفكر الجامي المدخلي، الذي يستمدُّ انحرافاته من علماء السعودية الرسميين، و كان كثيرٌ منهم يُؤيِّدون السلطة الجزائرية »انتهى .
* و مثلها : شهادة أحد رؤوس التكفير، و هو المدعو أبو بصير الطرطوسي في كتابه " أعمال تخرج صاحبها من الملة "(ص17-18) حيث قال:« فإنَّ مشايخ الإرجاء-يقصد مشايخ السلفية- قبحهم الله من مشايخ! ينشطون في كل مكان، و في كلِّ اتِّجاه و واد، بما أوتوا من علم، و حفظٍ للنصوص، يُصوِّرون للناس أنَّ هؤلاء الطواغيت مسلمون تجب طاعتهم »[ بواسطة كتاب " القصة الكاملة لخوارج العصر "(ص342) ] .
* و مثلها-كذلك- : قول أحد رؤوس الدواعش في تسجيل مرئي على اليوتيوب: « فلا يغُرنَّكم الجهمية من المداخلة و الفراكسة  ألقاب ينبزون بها السلفيين زورًا و بهتانًا- الذين يُشِّرعون لعوام المسلمين طاعة الطواغيت، و يكُفُّون أيديهم عن قتالهم » .
و الشاهد من كلام هؤلاء التكفيريين الخارجيين، هو طعنهم في مشايخ السلفية بأنهم يُؤيدون السلطة، و يُشِّرعون لعوام المسلمين طاعة الطواغيت، و يوجبون عليهم ذلك، و ينهونهم عن قتالهم، و هي نبرة كلِّ تكفيريٍّ ثوريٍّ خارجيٍّ، في هذا الزمان، و ما نقموا من السلفيين إلا أن أمَروا الناسَ بما أمرَهم الله به و رسوله من طاعة ولاة الأمر في غير معصية، و الصبر على جورهم، و نهيهم إيَّاهم عمَّا نهاهم الله و رسوله عنه، من الفتن و الخروج على ولاة الأمر، و سفك الدماء المعصومة، و هتك الأعراض المصونة، بالشبهات التكفيرية الواهية .
* هذا؛ و لم تقتصر جهود العلماء السلفيين في محاربة الفكر الخارجي المتطرِّف على الإسهام في إخماد ثورة الخوارج بالجزائر، المسماة: « بالعشرية السوداء » فحسب، بل لهم نظير هذه الجهود في محاربة ما استجدَّ في الساحة- بعد ذلك و ظهر من صنوف التنظيمات التكفيرية الخارجية، و الجماعات الثورية، و تحذيرهم من أفكارها المتطرِّفة؛ على غرار ما يُسمى « بتنظيم القاعدة »، و كذا « تنظيم الدولة الإسلامية » المعروف: « بداعش »، و قد كان لهذه الجهود بفضل الله تعالى- دورها الإيجابي في عزوف كثيرٍ من الشباب عن الانخراط في تلك الجماعات التكفيرية، أو الاغترار بأفكارها الهدامة، و هذا ما اعترف به العقلاء و المنصفون، و شهدت-و أشادت به- وسائل الإعلام العالمية! كما تراه في مقال " تنبيه أُولي البصائر في ردِّ مقولةِ: وماذا قدَّم الدكتور فركوس للجزائر " لإدارة موقع الشيخ حفظه الله، فقد جاء فيه: « كما قد شهِدَتْ جهاتٌ إعلاميةٌ خارجيةٌ بمدى تأثير الدعوة السلفية عمومًا، ودعوة الشيخ ـ فركوس حفظه الله ـ خصوصًا في إبعاد فكر التطرُّف التكفيريِّ عن شباب الجزائر، وحالت مؤلَّفاتُه ﻛ: «شرف الانتساب إلى مذهب السلف وجوانب الافتراق مع ما يُسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية» دون الْتِحاق الشباب المتحمِّس بجماعات القتل والتكفير، على العكس مِنَ الدُّوَل الإسلامية المُجاوِرة الأخرى حيث كانت نسبةُ تأثير فرقةِ ما يُعرَف ﺑ «داعش» على المغرَّر بهم فيها عاليةً »انتهى .
هذا بالنسبة للمشاركة الإيجابية لمشايخ السلفية في أحداث العشرية السوداء، و مواقِفهم من الجماعات الثورية، و التنظيمات الإرهابية، و هي مواقف ثابتة تنبعُ من أدلة الشرع، و نصوص الوحيين .
و أمَّا ما وقع بعد ذلك من أحداث، و ما تعاقب على الجزائر من أزمات، و ما مرَّ بها من ظروف و استحقاقات، فلمشايخ السلفية كذلك القدح المُعلَّى و الإسهام الوافر في التوجيه الرشيد، و النصح المفيد، الذي يصُبُّ في مصلحة البلاد، و يحفظ لها أمنها و استقرارها، يتمثَّل ذلك في عديد البيانات التي أصدروها، و المقالات التي نشروها في كل حادثة و واقعة، و في كلِّ ظرف و نازلة- مُذكِّرين بنعمة الأمن، و مُحذِّرين من الفتن و الفوضى، و من الانسياق وراء الدعوات التحريضية المشبوهة، مستندين إلى أدلة الشرع و مقاصده .
* و على سبيل المثال: بيانهم الذي أصدروه بتاريخ: 14 جمادى الآخرة 1435 هـ ، الموافق ل/ 16 أفريل 2014م، قُبيل الانتخابات الرئاسية - آنذاك-و فيه: « يتعيَّن على العقلاء والحكماء ممَّن يَهمُّهم مصلحة العباد والبلاد  نصحًا للأمّة واستبقاءً للخير فيها وصيانةً لها من أدواء الانحراف ومخاطر الانجراف- أن يذكِّروا أفرادها وجماعاتها بفضل الجماعة وأهميتها في حماية بيضة الدِّين واستتباب الأمن والحفاظ على مكتسبات الأمَّة..، وأن يحذِّروهم من جنايات الفتن وشرور الثَّورات التي لا تورث إلا سقط المتاع؛ من فقرٍ، وجوعٍ، وتآمرِ الأعداء، وتعطيل مصالح العباد والبلاد، والتَّمكين لدعاة الشرّ، ومروِّجي الفساد، وأن يقفوا بالمرصاد في وجه مبتغي الفتنة ومثيري الفوضى، ويقطعوا الطَّريق أمام المغرضين الشَّانئين لوحدة الجزائر وما تنعم به من أمنٍ واستقرارٍ، الدَّاعين إلى العصيان والتَّمرُّد والعودة بها إلى سنوات الجمر والهرج والمعاناة »انتهى .
* و من ذلك-أيضًا- : بيانهم الذي بعنوان " نصيــحةٌ وتحذير" الذي حمل توقيع ثلة منهم -آنذاك-، و في مقدمته كبيرهم العلامة محمد علي فركوس -حفظ الله الجميع-، و قد صدر قُبيل الانتخابات الرئاسية [بتاريخ: الثالثَ عَشَرَ مِنْ ربيعٍ الآخِر سنة: 1441هـ، الموافق للعاشر مِن ديسمبر 2019م]، بعد أن تعالت أصوات الفتنة، و صيحات التحريض و التحريش .
و فيه بناءً على الأحداث المُتعاقِبة، والفِتَن المتوالية التي تمرُّ بها البلادُ؛ فنحن المذكورةُ أسماؤُنا أدناه: نوجِّه هذه النصيحةَ في خطابٍ إلى الأمَّة الإسلاميَّة في الجزائر المحروسة -حكومةً وشعبًا- باعتبار ما يمليه علينا الواجب الشرعيُّ في تقديم النصيحة-، والمتضمِّن النقاطَ التالية:
أوَّلًا: تذكير الأمَّة بنعمة الأمن، والاستقرار في البلاد.. .
ثانيًا: تحذير الأمَّة مِنَ الدَّعَوات الغربيَّة المخطِّطة؛ لإثارة الشُّعوب ضِدَّ حُكَّامِها بأيدي أبناء المسلمين، والدعاياتِ المضلِّلة، والدعاوي المُغرِضة، والإشاعات الكاذبة، والأفكار الهدَّامة؛ التي تدعو إلى المساس بثوابت البلد، ودِينه، ووحدته، وهويَّتِه؛ تحت مِظَلَّة حقوق الأقلِّيَّة، أو الحريّة الفرديَّة، أو الديمقراطيَّة تارةً، أو غيرِها مِنَ الشعارات البراقَّة الخدّاعة تارة أخرى؛ ونسبةِ الكبت، والاضطهاد، وقمعِ الحُرِّيَّة إلى أُولي أمر البلاد.
ثالثًا: تحذير الأمَّة ممَّنْ يسعَوْن في إثارة الفتن، والدعوة إلى التدخُّل الأجنبيِّ في سياسة البلد، وتكثير سواد السالكين لسُبُل الضلالة؛ بإيقاعهم في شِبَاكِهم، وأفكارهم؛ تمزيقًا لوحدة الأمَّة، وإضعافًا لقُوَّتها، وتسليطًا للأعداء عليها»انتهى.
* و قد أشادت و سائل الإعلام المسموعة و المقروءة، ببيانات مشايخ السلفية في الجزائر، و عنونت لها بالبنود العريضة احتفاءً بها، و اعترافًا بما تضمنته من غيرة صادقة على الدين و الوطن، و ما تحويه من دعوة حارَّة إلى ما فيه صلاح البلاد و العباد .
* و على سبيل المثال: ما نشرته جريدة « الشروق » في عددها الصادر في 16/04/2014م ، تحت عنوان "عشية الانتخابات الرِّئاسية شيوخ السَّلفية يحذِّرون الجزائريين من الانسياق وراء دعاة الفوضى "، و فيه:« خرج عدد من الشُّيوخ والدُّعاة من منظِّري التيار السَّلفيّ في الجزائر؛ على رأسهم الدّكتور محمّد علي فركوس..، عن صمتهم، ليوجِّهوا رسالة إلى الجزائريين عشية انتخابات الـ17 أفريل، تحمل عنوان " نصيحة إلى أبناء الجزائر"، حصلت الشُّروق على نسخة منها، ضمَّنوها دعوة للجزائريين بأن « يفوِّتوا الفرصة على دعاة الفتنة والمبيّتين للسّوء المضمرين للعداوة »، في إشارة إلى المنادين بتصعيد الاحتجاجات والخروج إلى الشّوارع والاعتصام في السَّاحات، في حال تزوير الانتخابات ومصادرة اختيار الشَّعب.. .
كما حذَّر الموقِّعون على الرَّسالة الشَّعب الجزائريَّ من جنايات الفتن وشرور و الثَّورات »انتهى .
* و من ذلك: ما نشرته جريدة النهار في عددها الصادر في/10/21/2019 م، تحت عنوان " هذا ما قاله شيوخ السلفية عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية " و فيه: « أصدر شيوخ السلفية في الجزائر بيانا حول المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقررة يوم الخميس المقبل..، وحذر شيوخ السلفية في بيانهم من دعوات الدول الغربية المخططة لإثارة الشعب ضد الجيش بأيادي الجزائريين أنفسهم.
كما حذر مشايخ السلفية، الشعب ممن يسعون لإثارة الفتن والتدخل الأجنبي في سياسة البلد.
وحذَّر البيان الذي وقعه الشيخ فركوس، والدكتور عبد المجيد جمعة والشيخ أزهر سنيقرة والشيخ نجيب جلواح، الجزائريين من الفرقة والفتنة والشذوذ »انتهى .
* فصل *
منشأ الفتن الدموية و أسبابها، و جهود مشايخ السلفية في سدِّها وردمها



مرَّ معنا بأنَّ الفكر الثوريَّ التكفيري الذي تتولد عنه الثورات و الانقلابات- يمرُّ بثلاث مراحل أساسية: التنفير، و التكفير، ثم القتل و التدمير، و أن هذه المراحل الثلاث تنقسم في الجملة إلى قسمين: أسبابٌ، ونتائج .
تتمثَّل الأسباب في المرحلتين الأوليتين، و النتائج في المرحلة الثالثة .
و سأتكلم في هذا الفصل عن المرحلتين الثانية و الثالثة، من مراحل الفكر التكفيري، مع إبراز دور مشايخ السلفية في علاجها؛ هذا الدور الذي أسهم في تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة، و نشر الوعي الصحيح، و المنهج الوسطي المعتدل، و أثَّر بشكل مباشر في الحد من ظاهرة العنف، و تقزيمها، و تقليص رقعتها، و تضييق الخناق على أصحابها، و الحيلولة دون تأثُّر كثيرٍ من الشباب بأفكار أربابها، و توجهاتهم المتطرِّفة.
فأبدأ:
* بمرحلة « التكفير»التي سبق و أن بيَّنتُ بأنَّها: المرحلة الأساس التي يتولَّد منها الخروج و القتل والتدمير؛ فالفكر الخارجي هو مآل الفكر التكفيري و نتيجته، و ذلك أنَّ اعتقاد كفر الحاكم، و خروجه عن ملة الإسلام، يُعتبر من أكبر المسوِّغات التي ترتكز عليها الجماعات المسلحة في الخروج عليه، و مقاتلته، و السعي في خلعه و إزالته، إذ هو في نظرهم مرتدٌّ حلال الدَّم، لا وِلاية له على المسلمين، بل هي باطلة! .
و إذا رجعنا إلى منشأ فكرة التكفير من أصلها -عند هؤلاء- ، نجدها مبنية على قضيتين أساسيتين كبا فيهما جوادهم، و انحرف فيهما فهمهم، و ضلَّ فيهما سعيهم، فكانت بذلك- أول نواة لفكرهم الثوري الخارجي، بل مضغته التي لما فسدت فسد منهجهم كله، و هوى بهم في مستنقع الثورات، و أغرقهم في وحل الدماء، التي استحلوها انطلاقًا منه .
القضية الأولى: عقيدتهم الفاسدة في عصاة المسلمين، و أهل الكبائر منهم، فهم يُكفرون من وقع في شيء من كبائر الذنوب، و من ثمَّ يستحلُّون دمه، و في ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية  كما في " مجموع الفتاوى "(19/71) : « الفرق الثاني في الخوارج، وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسَّيِّئات، ويترتَّب على تكفيرهم بالذُّنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأنَّ دار الاسلام دار حرب ».
و يقول شيخنا محمد علي فركوس حفظه الله في مقاله الذي بعنوان " بيان أصناف الخارجين على الحاكم وأحكام الثورات الشعبية ":
« الثالث: قومٌ مِنْ أهل البدعة يُكفِّرون مُرْتَكِبَ الكبيرةِ بسببِ عُدُولهم عن منهج أهل السنَّة والجماعة وإنزالِهِم الدليلَ على غيرِ ما يدلُّ عليه، ويُرتِّبون على التكفير بالذنب استحلالَ دماءِ المسلمين وأموالِهِم إلَّا مَنْ خَرَجَ معهم »[ الموقع الرسمي للشيخ، [ " الكلمة الشهرية" رقم(64)] .
و هذا الذي برَّأ الله منه منهج أهل السنة و الجماعة السلفيين، حتى صار أحد الفروق الأساسية بينهم وبين التكفيريين و الخوارج .
يقول ابن أبي العز الحنفي ، كما في " شرح الطحاوية "(442-443): « أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا قَالَتِ الْخَوَارِجُ..، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ مَعَ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ..، وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَيْضًا مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ، لَا كَمَا يَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ ».
و يقول شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله في رسالته " منهج أهل السُّنَّة والجماعة في الحكم بالتكفير بين الإفراط والتفريط ":« فالتكفير حقٌّ لله تعالى وحده، وليس للعباد حقٌّ فيه، وتفريعًا على هذا الأصل فإنَّ أهلَ السُّنَّة والجماعةِ لا يحكمون بمَحْضِ الهوى، وإنما يكفِّرون مَن قام الدليلُ الشرعيُّ مِن الكتاب والسُّنَّة على كُفره، فلا يكفِّرون أهلَ القِبلة بمُطلق المعاصي والذنوبِ كما هو صنيعُ الخوارج، ولا يَسْلُبُونَ الفاسقَ الملِّيَّ الإيمانَ بالكلِّيَّةِ ولا يخلِّدونه في النار كما تفعله المعتزلةُ، وإنما مُعتقدُ أهلِ السُّنَّة في صاحب الكبيرة والمعصيةِ أنه مؤمنٌ بإيمانه فاسقٌ بكبيرته أو مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، فلا يُعطى الاسمَ المطلق ولا يُسْلَبُ مُطلقَ الاسم »[ ثم أحال الشيخ حفظه الله إلى «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣/ ١٥١،١٥٢)، و«شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (٣١٦، ٣٦٩) ] .
و كم لمشايخ السنة السلفيين-في بلاد الجزائر و غيرها- من الجهود الطَّيِّبة في تقرير العقيدة الإسلامية الصحيحة في أصحاب الكبائر، و نشرها و بيان فساد عقيدة أهل البدع من خوارج و غيرهم، التي هي أصل الفكر التكفيري و منشؤه، مما أسهم بشكل فعال في نشر الوعي الصحيح، و تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى العامة في هذا الباب، و التي يسعى أرباب الفكر التكفيري في بثِّها في أوساطهم و نشرها بينهم، و تقريرها في نفوسهم، لتكون مطيَّةً لهم إلى مرحلة التكفير التي تؤدي بهم-بدورها- إلى مرحلة القتل و التدمير .
* و أمَّا القضية الثانية التي نشأ عنها التكفير، و آلت بأولئك إلى التكفير، و من ثمَّ الخروج و القتل و التدمير-: فهي غبشٌ كبيرٌ في تصوُّر قضايا التكفير، و جهلٌ فظيعٌ بشروط هذا الباب الخطير، و خلطٌ و خبطٌ بين الإطلاق و التعيين، نتج عنه اعتقاد كفر كلِّ من وقع في الكفر، مع ترتيب أحكام الكفر عليه الدنيوية منها، و الأخروية، الأمر الذي أدَّى بهم إلى نتائج هذا الفكر -الكارثية-، من حمل السلاح، و استحلال الدماء، و استباحة الأعراض، و ترويع الآمنين، و نهب الممتلكات، و تدمير المنشآت، و غير ذلك من المخازي و الشرور .
و لمَّا كانت هذه القضية؛ أرضية صالحة لنموِّ هذا الفكر و تطوُّره، و رحمًا له، منها ينبت و يتولد، و همزة وصل يمتطيها أصحابه لبلوغ آخر مراحله؛ أولاها مشايخ السلفية اهتمامهم، و سخروا فيها أقلامهم و منابرهم، و ما أُتيح لهم من وسائل قصد علاجها، و الحيلولة دون تفاقم المرض و بلوغه مراحله النهائية.
و في بيان شيء من هذا الجهد- الجهيد- و السعي المشكور، تقول إدارة موقع شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله كما في مقال " جواب الإدارة على منتقد رسالة :« منهج أهل السُّنَّة والجماعة في التكفير بين الإفراط والتفريط » لأبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس حفظه الله ":
« إنَّ التصوُّر الصحيح للمسائل الشرعية هو المفتاح لصحة العلم وصواب العمل، والابتعاد عن الزيغ والزلل، وضمن هذا المنظور فإنَّ رسالة شيخنا أبي عبد المعزِّ حفظه الله تعالى- الموسومة ﺑ: «منهج أهل السنة والجماعة في الحكم بالتكفير بين الإفراط والتفريط» جاءت لتصحيح المفاهيم الخاطئة وإزالة الخلط في أوساط المتديِّنين، وبيان وسطية أهل السُّنة والجماعة بين الفِرق في المسائل العلمية والعملية عمومًا، وفي باب الأسماء والأحكام على وجه الخصوص، وذلك ضمن توجيهٍ لمسائل التكفير وبيان ضوابطه والتعريف بمسائله على وَفق ما جاء في الكتاب والسُّنة وفهم سلف الأُمَّة، إذ أنَّ التكفير حكمٌ شرعي يستمدُّ قُوَّتَه ونفوذه من مرجعية الشريعة، فهو حقٌّ لله وحده كما بيَّن في الرسالة-.
ومن هذا المنطلق عالجت رسالة: " منهج أهل السُّنَّة والجماعة في التكفير بين الإفراط والتفريط " هذا الجانب الضارَّ بالدرجة الأولى لتعلُّقها بوضع الأمة الجزائرية التي عايشت السيل العَرِم من فتنة التكفير.. .
وأيضًا رَكَّز العلماء على هذه المسألة لما ترتَّب على التسرُّع فيها في القديم والحديث من مفاسدَ عادت على أصول الدين بالهدم و الإفساد »انتهى .
و انظر لمزيد البيان: رسالة شيخنا محمد علي فركوس التي أُشير إليها في مقال الإدارة، و التي بعنوان: " منهج أهل السنة والجماعة في الحكم بالتكفير بين الإفراط والتفريط "، فقد حشد فيها جملة من القيود العلمية التي تنضبط بها هذه القضية، و يُسدُّ بها باب التكفير بغير حق، المفضي إلى الخروج و الفتنة، أبرَزَها الشيخ حفظه الله على شكل عناوين، على النحو التالي:
* التكفير حكم شرعي وحق لله وحده .
* التفريق بين الإطلاق والتعيين في الحكم بالتكفير.
* التفريق في الاجتهاد بين المخطئ والمعاند .
* التحذير من تكفير أحد المسلمين .
* عِظَم خطر تكفير المسلم .
و تحت كلِّ عنوان من هذه العناوين، كلامٌ علميُّ رصين مستمدُّ من الكتاب و السنة، و أقوال أئمة الإسلام، به تُثبَّت دعائم هذا الباب .
و منه قول الشيخ حفظه الله تحت عنوان: " التفريق بين الإطلاق والتعيين في الحكم بالتكفير " :
« أهلُ السُّنَّة يُفرِّقون بين الإطلاق والتعيين في إصدار حُكم التكفير، فقد يكون الفعل أو المقالةُ كُفرًا لكنَّ الشخص المعيَّن الذي تلبَّس بذلك الفعلِ أو تلك المقالة لا يُحكم بكفره حتى تقام عليه الحُجَّةُ الرِّسالية التي يكفر تاركُها، وحتى تُزال عنه كلُّ شبهةٍ يمكن أن يعلق بها؛ لأنَّ كلَّ الفِرَق قد يصدر عنها أقوالٌ كفريةٌ، فلا يشهدون على معيَّنٍ من أهل القِبلة أنه من أهل النار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرطٍ أو لثبوت مانعٍ[ أحال الشيخ هنا إلى مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، فهُم لا يكفِّرون إلَّا ببَيِّنةٍ شرعيةٍ، بعد تحقُّق الشروط، منها: أن يكون قولُه الكفرَ عن اختيارٍ وتسليمٍ، أو يكونَ لازمُ قوله الكفرَ وعُرِضَ عليه فالتزمه، وأن تقوم الحُجَّة عليه ويتبيَّنَها، وانتفاءِ الموانع في حقِّه التي تحول دون الحكم بكفره، منها: أن يكون مُغيَّبَ العقل بجنونٍ ونحوِه، أو أن يكون حديثَ عهدٍ بالإسلام، أو لم يتسنَّ له معرفة الدِّين إلَّا بواسطة علماء الابتداع يستفتيهم ويقتدي بهم، ومِن موانع الحكم على معيَّنٍ بالكفر ـ أيضًا ـ أن لا تبلغه نصوصُ الكتاب والسُّنَّة كمن نشأ بباديةٍ بعيدةٍ، أو بلغته أحاديثُ آحادٌ ولم تثبت عنده، أو لم يتمكَّن مِن فهمها، أو بلغته وثبتت عنده وفَهِمَها لكن قام عنده معارضٌ أوجب تأويلَها ونحو ذلك من الموانع » انتهى .
* و للشيخ فركوس حفظه الله مقالة أخرى نافعة في هذا الباب، و هي من جهوده الطيبة المباركة في تصحيح المفاهيم الخاطئة، و ضبط هذه المسألة بالضوابط الشرعية التي تهدم ضلالات التكفيريين و من على شاكلتهم من الثوريين، و تحول بينهم و بين تمرير شبهاتهم، و تقرير ضلالاتهم و التلبيس بها على الناس .
و عنوان المقالة " حكم إطلاقِ الكفر على من أتى بالكفريات "، فيها تفصيلاتٌ و تأصيلاتٌ سلفيةٌ نفيسة تدحض شبهات التكفيريين و الثوريين، و تهدم قواعدهم الفاسدة، و أصولهم الكاسدة، أنصح بمراجعتها .
* هذا كلُّه بالنسبة لجهود مشايخ السلفية في علاج المرحلة الثانية من مراحل الفكر الثوري الخارجي، و هي مرحلة « التكفير»، و بقي معنا:
المرحلة الثالثة-من مراحل هذا الفكر- و هي الخروج، و ما يتبعه من القتل و التدمير و التخريب، و سفك الدماء، و استباحة الأعراض، و نهب الممتلكات و غير ذلك من المفاسد التي لا يعلمها إلا الله.
فلمشايخ السلفية -كذلك- جهودٌ مُباركة في علاج هذه المرحلة ، و التخفيف من حدَّتها، و الحيلولة دون وصول الشباب إليها، و تتلخَّص جهودهم في ذلك- في عدد من النقاط على النحو التالي :
النُّقطة الأولى: تحذير مشايخ السنة السلفيين من الخروج على ولاة الأمر، وإحداث الفتن والثورات، والتَّذكير بالنصوص الشرعية النَّاهية عن ذلك، و الحثِّ على الاعتبار بالغير، و لفت أنظار الناس إلى مفاسد الخروج و مآلاته الوخيمة .
النُّقطة الثانية: الحثُّ على مُقابلة جور الحكام و استئثارهم بالأموال والمناصب، بالصبر، كما أرشدت إلى ذلك الأحاديث النبوية .
النقطة الثالثة: الدعوة إلى اعتزال الفتن .
النقطة الرابعة: تصحيح المفاهيم الخاطئة حول موضوع الجهاد .
النقطة الخامسة: التشديد على حرمة دماء المسلمين.
النقطة السادسة: التَّذكير بقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
و سأرجئ الكلام على جهود مشايخ السلفية في علاج هذه المرحلة الخطيرة جدًّا -من خلال هذه النقاط المهمة- إلى الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، فارتقبوها...

و صلى الله وسلم على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

بقلمأبي بسطام إبراهيم بويران الأخضري الجزائري
كان الله له و ثبَّته على الحقِّ
وأدامه مُدافعًا عنه
وعن أهله 
.

ماسة برتقالية صغيرة
إلى كلِّ من يَسعى لتَحقيق أمنِ البلادِ واستِقرارها والبحثِ عن حُلول جذريَّة للمشاكِل الأَمنِيَّة: الدَّعوةُ السَّلَفيَّةُ هِي الحل (الحلقة الرابِعة)
ماسة برتقالية صغيرة
يد تكتب
بقلم الأخ: إبراهيم بويران -وفقه الله-
الكرة الأرضية مع خطوط الطول
رابط المشاهدة : elibana.org/vb/node/160679
إلى كلِّ مَن يَسعَى لتَحقِيقِ أَمنِ البِلادِ واستِقرَارِها والبَحثِ عَن حُلولٍ جِذرِيَّةٍ للمَشَاكِل الأَمنِيَّة: الدَّعوَةُ السَّلَفيَّةُ هِيَ الحَل (الحلقة الرَّابِعَة)

== تابع:
* فصل *
جهود مشايخ السَّلفية في استتباب الأمن و الاستقرار، و درء الفتن والثورات و الحيلولة دون حدوثها
تكلمت في الحلقة السابقة عن جهود مشايخ السَّلفية في علاج المرحلة الثانية من مراحل الفكر التكفيريِّ الثوري، أعني مرحلة ( التكفير)، و هي جهودٌ يعترف بها كلُّ منصف و صاحب حق، كما يشهد الواقع بنفعها و نجاعتها و بعظيم أثرها .
و سأتكلم في هذه الحلقة عن جهودهم في علاج:
المرحلة الثالثة-من مراحل هذا الفكر التكفيري الخارجي المتطرِّف- و هي الخروج، و ما يتبعه من القتل و التدمير و التخريب، و سفك الدماء، و استباحة الأعراض، و نهب الممتلكات و غير ذلك من المفاسد التي لا يعلمها إلا الله.
فلمشايخ السلفية -كذلك- جهودٌ مُباركة في علاج هذه المرحلة الخطيرة، و التخفيف من حدَّتها، و الحيلولة دون وصول الشباب إليها، و يمكن أن نُلخِّص جهودهم في ذلك- في عدد من النقاط على النحو التالي :
النُّقطة الأولى
تحذير مشايخ السنة السلفيين من الخروج على ولاة الأمر، وإحداث الفتن والثورات، والتَّذكير بالنصوص الشرعية النَّاهية عن ذلك، و الحثِّ على الاعتبار بالغير، و لفت أنظار الناس إلى مفاسد الخروج و مآلاته الوخيمة .

أقول: سبق معنا- بأنَّ السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين، و النهي عن الخروج عليهم، و الأمر بالصبر على جورهم و ظلمهم، يُعتبر أصلًا من أصول العقيدة السلفية؛ قلَّ أن يخلو كتاب من كتب العقائد المعتمدة عند أهل السنة من تقريره وشرحه وبيانه، كما سبق نقل إجماع أهل السنة والجماعة على تحريم الخروج على الحكام و إن كانوا فجَّارًا أو ظلمة، للأحاديث الناهيـة عن الخروج الآمرة بالصبر على جور الأئمة من جهة؛ ولما يترتب على ذلك من الفتن، والشرور، من جهة أخرى، وصار هذا الأصل من أهم الأصول التي باين بها السلفيون فرق الضلال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية  وهو من كبار أئمة الدعوة السلفية، كما في " مجموع فتاويه " (35/ 12): « وأمَّا أهل العلم والدين والعقل فلا يُرخِّصُون لأحدٍ فيما نهى الله عنه، من معصية ولاة الأمور، وغشِّهم، والخروج عليهم، بوجه من الوجوه، كما قد عرف من عادات أهل السنة والدِّين قديما وحديثـًا، ومن سيرة غيرهم »انتهى .
و انطلاقًا من هذا الأصل السلفي الأصيل، ترى علماء السنة يُحذِّرون من الخروج على الحكام، و يُلفتون أنظار الناس إلى مفاسده العظيمة، و عواقبه الوخيمة، لزجر من خرج، و ردع من تُحدِّثه نفسه بأن يكون حطبًا لنيران الثورات و الانقلابات .
و في هذا-السياق- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : « و قلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولَّد على فعله من الشَّر أعظم مما تولَّد من الخير» [ " منهاج السنة "(4/527-528) ] .
و قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله، مُعلِّقًا على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية : « تأمل هذه الأقوال السديدة لشيخ الإسلام ابن تيمية القائمة على النصوص النبوية، وعلى مراعاة المصالح والمفاسد، وعلى معرفة تأريخ الثورات ونتائجها المدمرة، والعاقل من يعتبر .
فعلى من ينشد الحق أن يستفيد من المنهج الإسلامي في مواجهة الفتن، وأن يحذِّر المسلمين من مخالفة هذا المنهج، وأن يحذِّرهم أن يجرهم الشيطان إلى الفتن وسفك الدماء... . »[ مقال في "حكم المظاهرات" في موقعه] .
و قال الشيخ فركوس حفظه الله وقد تظافرَتِ النصوصُ الواردة في الحضِّ والحثِّ على طاعةِ وُلَاةِ الأمر ـ في غيرِ معصيةٍ ـ وهي ـ أيضًا ـ كثيرةٌ مستفيضةٌ تمنع مِنَ الخروج على الأئمَّة لِمَا في ذلك مِنْ إحياء الفتنة، وتأمر بالصبر على جَوْرِ الأئمَّةِ وعدمِ نزع اليد مِنَ الطاعة، ولِمَا يترتَّب على عزل الإمام أو السلطان مِنْ فِتَنٍ وإراقةٍ للدِّماء، وجريًا على ما تُمليهِ القواعدُ المقاصدية، مِنْ أنَّ دفع المفاسدِ مقدَّمٌ على جلب المصالح »[ الموقع الرسمي للشيخ فركوس حفظه الله، الكلمة الشهرية رقم:( ١١٦ ): " تقرير مذهب السلف محقَّقًا في عدمِ جوازِ عزلِ الإمام الأعظمِ وانعزالِه بالفسق مطلقًا "] .
و قال حفظه الله: « ولا شكَّ أنَّ مُلازَمةَ الجماعةِ المُنتظِمة بإمامٍ يَنْعَمُ فيها المرءُ باستقرار الأحوال، وذهابِ الخوف وحلولِ الأمن؛ فيَسْلَمُ دِينُه وعِرْضُه؛ فهو ـ ولو كان مع ضيق العيش وقلَّةِ المؤونة ـ خيرٌ مِنْ بحبوحة العيش وسَعَةِ الرزق في حالة الاضطراب والفوضى الناجمة عن مُفارَقة الجماعة؛ فإنَّ تلك الحالَ تعمُّ فيها الفتنةُ فتُسْفَكُ فيها الدماءُ، وتُستباحُ الأموالُ، وتُنتهَك المحارمُ، وتُقْطَع السُّبُلُ، ويضعف الدينُ، وينقص العلمُ، وينتشر الجهلُ، ويتسلَّط السفهاءُ ويتمكَّن الجُهَّالُ، وغيرها مِنَ الآثار الوخيمة والمفاسدِ العظيمة على الأمَّة »[ الموقع الرسمي للشيخ، الكلمة الشهرية رقم:( ١١٨ ): " وصيَّةٌ أخويةٌ جامعة ونصيحةٌ حبِّيَّةٌ نافعة " ] .
و للشيخ فركوس حفظه الله- نحو هذا الكلام-الجميل- في التذكير بمفاسد الخروج و الثورات، و ذلك في رسالته " شرف الانتساب إلى مذهب السلف وجوانب الافتراق مع ما يُسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية " حيث قال :
« المحور الثاني: جوانب التقاطع مع السلفية الجهادية والحزبية.. .
لم تتحقَّقْ في خروجهم وثورتهم مقاصدُ التشريع، بل كانت نذيرَ شؤمٍ وفسادٍ في الأرض، والناظرُ في حصيلة نتائج خروجهم الثوريِّ يجدها مريرةً ووبالًا في حقِّ أمَّةٍ مسلمةٍ ضعيفةٍ، وثقيلةً على الوضع الداخليِّ في حقِّ بلدٍ مسلمٍ متداعيةٍ عليه الأممُ ».
هذا؛ و لم يكتف مشايخ السلفية بالتذكير بمفاسد الخروج على الحكام، و العواقب السَّيِّئة للثورات و الانقلابات، بل تراهم كذلك-يُرشدون لخارجين، و يحثُّونهم على التوبة إلى الله تعالى، و الرجوع إلى جادة الصواب، و قد مرَّ معنا فتاوى كبار علماء السلفية للجماعات المسلحة إبَّان العشرية السوداء، بل بلغ بهم الحرص على الخير للبلاد و العباد: إلى مراسلة بعض أمراء الجماعات، و نصحهم بوضع السلاح و ترك القتال و النزول، من الجبال .
* و من أمثلة ذلك: رسالة العلامة العثيمين - للمدعو « حسان حطاب » زعيم إحدى الجماعات المسلحة، و كانت بتاريخ 14/ربيع الأول سنة:1421 هجرية -منقول-، و فيها:« من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم: حسان حطاب، أمير الجماعة المسلحة في منطقة الجزائر.. .
آمل منكم أيها الأمير أن تُبادروا بالإصلاح و وضع السلاح، وفقكم الله للخير» .
و من هذا الباب: نصائح مشايخنا لأصحاب المظاهرات و الاعتصامات و الإضرابات و المسيرات، بترك ما يُخالف الشرع، و البعد عن هذه المسالك و الأساليب التي تؤدي إلى زعزعة الأمن و الاستقرار، و إلى الفتن و الفوضى .
و قد حصل هذا منهم ، مرات و كرات، و من ذلك: فتاويهم و بياناتهم التي أصدروها أيام المظاهرات و المسيرات التي تزامنت مع ظهور ما يُسمى بالربيع العربي، و التي حصل فيها مع الأسف الشديد، ما حصل من العنف و الفوضى و التكسير و التخريب، و الله المستعان .
و قد أشادت وسائل الإعلام بهذه المواقف المشرفة لمشايخ الدعوة السلفية، وتناقلتها في صُحفها و مجلاتها، على غرار ما فعلته جريدة النهار في عددها الصادر يوم: 05/04/2011 م، : فقد نشرت مقالًا بعنوان: " الشيخ فركوس: الاحتجاجات.. حرام"، و فيه: « حرَّم الشيخ أبو عبد المعز محمد علي فركوس، كل مظاهر الاحتجاجات والاعتصامات المطالبة، برحيل الرؤساء في كل البلدان الإسلامية أو المعارضة لقراراتهم والداعية إلى الخروج عن طاعتهم..، وقال الشيخ فركوس في فتوى ظهرت على موقعه أمس، ركن " كلمات الشيخ الشهرية" ، أن ما يحدث في الأمة اليوم من تناحر وقتال بين المسلمين بدعوى إزاحة الأنظمة الجائرة أو غير ذلك، هي أمور باطلة نهى عنها الرسول ، حيث أمر بالطاعة والاستجابة للرؤساء وولاة الأمور مهما ظهر منهم من جور وظلم للرعية، حيث قال الإمام أحمد في ذلك: « من خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو الغلبة، فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإن مات الخارج مات ميتة جاهلية، ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق » .
وأضاف: « أنه لا يجوز الخروج عن الحاكم مهما كانت الطريقة التي اعتلى بها سدَّة الحكم، سواء بالانتخاب، أو القوة، أو الانتداب، أو الاستخلاف..، حيث أوجب الطاعة للحاكم وإن اعتلى الحكم عن طريق انقلاب عسكري؛ من أجل اجتناب الفرقة والحروب الأهلية التي تحصد الأرواح البريئة، واستند الشيخ فركوس في ذلك إلى عدة أقوال لأهل العلم »انتهى .
* ولم تتغيَّر مواقف مشايخ السلفية بتغيُّر الأحوال، و تقادم السنين، و اختلاف الشعارات، التي يرفعها أصحابها و يُنادون بها في ثوراتهم، فها هم اليوم كذلك- فيما يُسمى بالحراك الشعبي، ينهون عن الفتنة و يُحذرون من الانسياق وراء دعاتها، و مُؤجِّجيها، و من يسعى في استغلالها لزعزعة استقرار البلاد، و ضرب أمنها، و فتح الأبواب أمام الأعداء للتدخُّل في شؤونها .
و قد تفاعلت وسائل الإعلام  مرة أخرى- مع هذا الموقف الإيجابي للسلفيين، النابع عن قناعاتهم و عقيدتهم الإسلامية الصحيحة في تحريم الخروج على الحاكم، و افتعال الثورات و الانقلابات، لخلعه و تنحيته .
و من ذلك: ما نشرته جريدة " الصوت الآخر " [ في عددها الصادر يوم الإثنين 18 فبراير 2019م] تحت عنوان " دعوا الجزائريين إلى التبليغ عن أي تحركات مشبوهة للتظاهر "، جاء فيه:« أكد أتباع التيار السلفي في الجزائر، معارضتهم لأي مظاهرات أو احتجاجات في الشارع..، حيث يداوم السلفية في هذا الصدد على نشر أحاديث وفتاوى تحرم مثل هذه التحركات، كما دعوا الجزائريين إلى الحيطة والحذر من هذه الخطوات التي تستهدف أمن واستقرار البلاد-حسبهم-.. .
وقد حملت حملاتهم التي اجتاحت العديد من الصفحات على غرار صفحة « قناة التوحيد والسنة » و « المنهج العلمي السلفي »، و « السلفية منهجي »، وغيرها، شعار " أمن الجزائر خط أحمر" .
كما يعتبر السلفية أن مثل هذه الخطوات هي بمثابة مكيدة ضد البلاد ، داعين كل الغيورين على وطنهم إلى الدفاع عن أمن واستقرار الجزائر ، متسائلين بالخصوص عن أولئك الذين يدعون إليها ومؤكدين من جهة أخرى التزام السفلية بالدفاع عن أمن البلاد »انتهى .
* و قد أغاضت هذه المواقف السلفية المشرِّفة التي تنبع من أدلة الشرع، و مقاصده النبيلة، و التي بها تتحقق مصالح البلاد و العباد؛ أغاضت بعض المشبوهين، فجعلوا يكيلون السِّباب و الشِّتام لهذه الدعوة المباركة، و لمشايخها الأفاضل، على غرار ما فعلته قناة "الحرة " في أخبارها المنشورة يوم 21 مارس 2019 : فقد أبرزت على صفحتها الرئيسية عنوانًا بالبند العريض، مفاده " وقف ضد الحراك.. الفكر السلفي في الجزائر "، و مما جاء فيه نقلًا عن أحد رواد القناة- : « أن التيار السلفي الذي يتخندق في صف السلطة في جميع البلدان ذات الأغلبية المسلمة يشكل رقما أساسيا في معادلة التغيير !» .
فالقوم، يرون التيار السلفي! حجر عثرة في طريقهم، يُعيقهم عن تنفيذ مخططاتهم الإجرامية الانقلابية، فلذلك جعلوه رقما أساسيا في معادلة التغيير!

النُّقطة الثانية
الحثُّ على مُقابلة جور الحكام و ظلمهم، و استئثارهم بالأموال والمناصب بالصبر

من أكبر المداخل التي يسعى الثوريون التكفيريون لاستغلالها في تجييش قلوب الناس على ولاة أمرهم، و من أعظم الفرص التي يحاولون انتهازها لتحريض الناس على الفتن و الثورات، و إحداث الانقلابات، ما قد يحصل من ظلم و بغيٍ من قبلِ ولاة الأمر على رعيتهم، و استئثارهم بالأموال و الخيرات و المناصب دونهم، و منعهم الناس من بعض حقوقهم-أو من كثير منها-، فيجد حينها دعاة الفتن و الثورات الفرصة مواتية لإيقاد نيران الفتنة، و بلسان حالهم يقولون: لا سمع و لا طاعة إلا بالعطاء، فيجعلون سمعهم و طاعتهم لولاة الأمر معاوضة على العطاء، فمتى ما قُطع عنهم العطاء خلعوا أيديهم من الطاعة و شقوا عصا الجماعة، و أحدثوا الفتن، و حرَّضوا على الشرور .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية  كما في " مجموع الفتاوى "(35/16): « و من كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية و المال فإن أعطوه أطاعهم و إن منعوه عصاهم فماله في الآخرة من خلاق »انتهى .
و في مثل هؤلاء قال : « ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم ، وَلَهُم عَذَاب أَلِيم.. »، و ذكر منهم:« وَ رجلٌ بَايع رجلًا لَا يبايعه إِلَّا للدنيا ، فَإِن أعطَاهُ مَا يُرِيد وفَّى لَهُ ، وَإِلَّا لم يَفِ لَهُ »[ أخرجه: البخاري (2672) و مسلم (293) من حديث أبي هريرة  ] .
فهذه هي بيعة أهل الأهواء قائمة على المعاوضة، فهي أشبه ما تكون بالأخوة الزائفة المبنية على المصلحة، فمتى ما زالت المصلحة زالت الأخوة، و الله المستعان!
أما أهل السنة فإنَّ بيعتهم ليست ثمنًا للعطاء، و لا هي مقصورة على هذه الحال، بل هي واجبةٌ عندهم في المنشط و المكره، و في العسر و اليسر و الأثرة، كما أمَرت بذلك الأحاديث النبوية الصحيحة .
قال شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله: « فكان منهجُ أهلِ السنَّةِ السلفيِّين: جَمْعَ قلوبِ الناسِ على وُلَاتهم، والأمرَ بالصبر على ما يَصْدُرُ عنهم مِنْ ظُلْمٍ للعباد أو استئثارٍ بالمال، والدعاءَ لهم بالصلاح والعافية »[المصدر: الموقع الرسمي للشيخ حفظه الله، الكلمة الشهرية رقم(٨١)، بعنوان " في حكم التشهير بالحكام والتشنيع عليهم " ].
و قال حفظه الله: « فهذا موقفُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ يقابِلون جَوْرَ السُّلطانِ بالصَّبرِ والاحتسابِ، ولا يُقْدِمون على شيءٍ من المنهيَّاتِ من حملِ السِّلاحِ أو إثارةِ فتنةٍ أو نزعِ يدٍ عنِ الطَّاعةِ، تحكيمًا للنُّصوصِ والآثارِ ..» [ " المنهج القويم في معاملة الحكام " ضمن كتاب " مجالس تذكيرية على مسائل منهجية (ص349)"] .
و قد عدَّ الشيخ فركوس -حفظه الله- هذه الخصلة النبيلة من الفروق بين السلفية الحقة، و بين ما يُسمى بالسلفية الجهادية الحزبية، فقال حفظه الله كما في رسالته " شرف الانتساب إلى مذهب السلف وجوانب الافتراق مع ما يُسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية ": « ومن جوانب المفارقة مع ما يسمَّى بالسلفية الجهادية أو الحزبية: أنهم لا يصبرون على جَوْر الأئمَّة وحيف الحكَّام، ولا يَدْعُون لهم بالصلاح والعافية، وإنما يطعنون فيهم بأنواع أساليب الطعن والقدح من السبِّ والشتم واللعن والتكفير والانتقاص والتشهير بعيوبهم والتشنيع عليهم على رؤوس المنابر وفي المحافل، وفي مختلف وسائل الإعلام، قَصْدَ تأليب العامَّة عليهم وتحريكها نحو متاهات الفتن ودمار الخروج.. .
وهذا مخالفٌ لِما عليه أهل السنَّة السلفيُّون من وجوب الصبر على جَوْر الحكَّام، وعدمِ التشهير بعيوبهم أو الطعن فيهم بالسبِّ واللعن وغيرهما..»انتهى.
ثم ذكر الشيخ جملة من الأحاديث النبوية التي يستند إليها مُعتقد أهل السنة في هذا الباب.
و من الشواهد الواقعية على ما قاله شيخنا، ما حصل في بلادنا-في السنوات الماضية- فيما يسمى بقضية غلاء الأسعار، و ما تبعها من خفضٍ لأجور بعض الموظفين، و منع البعض الآخر من بعض الامتيازات التي كانوا يحصلون عليها، حيث خرج دعاة الفتنة من جحورهم مستغلين الوضع لدقِّ طبول الفتنة، و الَّتحريض العلنيِّ على العنف و الثورة، بدعوى الحرمان من الحقوق! و استئثار الحكام بخيرات البلاد، و ..، و.. إلخ .
و قد رآى الجميع كيف وقف مشايخ السلفية في وجوههم، محذرين منهم ومن فتنتهم، مذكرين الناس بمآلات الفتن، و بما تعيشه الآن كثيرٌ من الدول الإسلامية من أوضاع مأساوية جراء انصياعهم لأمثال هؤلاء، و اغترارهم بهم و بدعواتهم المدمرة .
كما حثَّ مشايخ السلفية الناسَ على الصبر، و على التوبة و الاستغفار، كما أمر بذلك النبيُّ  أمته في مثل هذه الأحوال، في غير ما حديث .
و الشاهد؛ أنَّ أهل السنة لم يكتفوا بمجرد الصبر في أنفسهم و لزوم الصمت، و هم من جملة من تأذَّى و تضرَّر! بما حصل من رفع الأسعار، و غلاء المعيشة، بل بذلوا الجهود العظيمة لتوعية الناس، و إفشال مخططات دعاة الفتنة، و تفويت الفرصة عليهم .
كلُّ ذلك انطلاقًا من قناعاتهم الراسخة، و عقائدهم الصافية الزكية، و منهجهم السليم القويم، و تأسيًا كذلك منهم بأئمة أهل السنة السالفين، وكبار علماء السلفية الماضين، فهو دين تلقوه خلفًا عن سلف .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - في كتابه الفذ " منهاج السنة النبوية" (4/530-531) : « و كان قتل الحسين مما أوجب الفتن، كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن، و هذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي ، من الصبر على جور الأئمة، و ترك قتالهم، و الخروج عليهم، هو أصلح الأمور للعباد، في المعاش و المعاد، و أن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد ، و لهذا أثنى النبي ، على الحسن بقوله:« إن ابني هذا سيِّد و سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»، و لم يثن على أحد لا بقتال في فتنة ، و لا بخروج على الأئمة، و نزع يد من طاعة، و لا مفارقة للجماعة » .
النُّقطة الثَّالثة
الدَّعوة إلى اعتزال الفِتن
من علاجات مشايخ السلفية للمرحلة الثالثة من مراحل الفكر الثوري، -و هي مرحلة الخروج، و ما يصحبها من قتل و قتال-، و من وسائلهم الشرعية في التخفيف منها ما أمكن: نصائحهم السديدة للناس و توجيهاتهم الرشيدة لهم باعتزال الفتن، و النأي عنها بأنفسهم، و عدم الاستشراف لها، أو الخوض فيها مع الخائضين، أو تكثير سواد أهلها، مع تدعيم توجيهاتهم بالأحاديث النبوية الصحيحة، و الآثار السلفية عن الصحابة و التابعين، و كبار أئمة الإسلام، و هي طريقتهم التي لها يسلكون، و عليها يسيرون .
و في ذلك يقول شيخنا محمد علي فركوس حفظه الله:« أمَّا موقف أهل السنَّة السلفيِّين من الفتنة فهو وجوب تركِ القتال فيها عملًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «سَتَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ»[ متفق عليه] ، ولنهيه صلَّى الله عليه وسلَّم عن القتال في الفتنة بقوله: « كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ» [ صحيح؛ " السلسلة الصحيحة"(١٥٣٥)] ، ويدلُّ عليه ـ أيضًا ـ حديث حذيفة بن اليمان  حين قـال له صلَّى الله عليه وسلَّم: « تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟» قَالَ: « فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ » [ متفق عليه] .
ثم نقل الشيخ فركوس عن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ  ـ قوله في كتاب " الاستقامة " (١/ ٣٢)- مبيِّنًا مذهبَ أهل السنَّة: « نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن القتال في الفتنة وكان ذلك من أصول السنَّة، وهذا مذهب أهل السنَّة والحديث وأئمَّة أهل المدينة من فقهائهم، و غيرهم »[ " مجالس تذكيرية على مسائل منهجية " ( 304) .
و قال الشيخ فركوس أيضًا-:« من أصول أهل السنة: لزوم الجماعة، و ترك قتال الأئمة، و ترك القتال في الفتنة »[ " مجالس تذكيرية "(ص318)] .
و هذا الذي تربى عليه السلفيون على يد هذا العالم السلفي محمد علي فركوس حفظه الله ، و كذا على يد إخوانه من علماء السنة، جزاهم الله عن الإسلام و المسلمين خيرا .
و لذا؛ ترى أهل السنة السلفيين من أبعد الناس عن إثارة الفتن و افتعال الثورات و الانقلابات، بل لا تجدهم إلا مُحذِّرين منها و من أهلها، ناصحين باعتزالها و بالبعد عنها و عن أهلها و بلزوم جماعة المسلمين و إمامهم، ولله الحمد .
و هذه مواقفهم و بياناتهم التي سيق بعضها أكبر شاهد على ذلك .

آخر هذه الحلقة:
و سأتبعها بمشيئة الله تعالى- بالحلقة الخامسة و الأخيرة، و فيها سأختم الكلام على نقاط هذا الفصل، و التي بقي منها ثلاثة، -و تُعتبر من أهمها- و هي:
النقطة الرابعة: تصحيح المفاهيم الخاطئة حول موضوع الجهاد .
النقطة الخامسة: التشديد على حرمة دماء المسلمين.
النقطة السادسة: التَّذكير بقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
و صلى الله وسلم و بارك على عبده و رسوله نبيِّنا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
كتبه: أبو بسطام إبراهيم بويران الأخضري الجزائري كان الله له .

#ردود_أعضاء_الإبانة
ماسة برتقالية صغيرة
إلى كلِّ من يَسعى لتَحقيق أمنِ البلادِ واستِقرارها والبحثِ عن حُلول جذريَّة للمشاكِل الأَمنِيَّة: الدَّعوةُ السَّلَفيَّةُ هِي الحل
ماسة برتقالية صغيرة
الحلقة الخامسة
يد تكتب
بقلم الأخ: أبي بسطام إبراهيم بويران -وفقه الله-
الكرة الأرضية مع خطوط الطول
رابط المشاهدة :elibana.org/vb/node/160840

* فصل *
جهود مشايخ السَّلفية في استتباب الأمن و الاستقرار، و درء الفتن والثورات و الحيلولة دون حدوثها.
تكلَّمتُ في الحلقة السابقة عن جهود مشايخ السَّلفية في علاج المرحلة الثالثة من مراحل الفكر التكفيري الخارجي المتطرِّف، التي تُعتبر آخر مراحل هذه الفكر و نتيجته الحتمية التي يوصل إليها .
و هي: مرحلة الخروج، و ما يتبعه من القتل و التدمير و التخريب، و سفك الدماء، و استباحة الأعراض، و نهب الممتلكات و غير ذلك من المفاسد .
و جعلتُ كلامي مُلخَّصًا في ستِّ نِقاط ، ذكرتُ بعضها و بقي منها ثلاثًا، و هي كالآتي:
النقطة الرابعة: تصحيح المفاهيم الخاطئة حول موضوع الجهاد .
النقطة الخامسة: التشديد على حرمة دماء المسلمين.
النقطة السادسة: التَّذكير بقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
و أبدأ بمعونة الله تعالى و توفيقه- بـ :
النُّقطةِ الرَّابِعَة
تَصحيحُ المفَاهِيم الخاطِئَة حَولَ مَوضُوع الجِهَاد
و جهود مشايخ السلفية في هذا الباب هي حلقةٌ من سلسلة جهودهم في معالجة المرحلة الثالثة من مراحل الفكر الثوري الخارجي، و تكمن أهمية هذا الجهد الطيب، و العمل المُبارك، في تجلية الفرق بين الجهاد الشرعي، و بين قتال الخوارج، و ثورات التكفيريين و من على شاكلتهم؛ و في ذلك يقول شيخنا محمد علي فركوس حفظه الله-: « وقد ينقلب الجهاد الشرعيُّ إلى قتالٍ غير شرعيٍّ إذا ما انتفت المعاني النبيلة للجهاد في سبيل الله، وتغيَّرت المقاصد والدوافع »[ " مجالس تذكيرية "(ص330)] .
فالخوارج و من على شاكلتهم من الثوريين-، قد تلاعبوا بمصطلح الجهاد، و أصبغوا به ثوراتهم ضدَّ الحكام، و ألبسوها ثوب الجهاد الشرعي، لتغرير الشباب واستقطاب أكبر قدر ممكن من المخدوعين و المغفَّلين منهم، كما حصل هذا في سنوات العشرية السوداء في الجزائر، الأمر الذي كان له تأثيره المباشر على الشباب، ظهر ذلك- في تعاطف الكثير منهم معهم، و التحاق البعض الآخر بصفوفهم، لولا أنَّ الله تعالى سلَّم-من سلَّم منهم- بفتاوى علماء السلفية التي أظهرت زيف ذاك الجهاد، و بعده عن حقيقة الجهاد الشرعي، و قد سبق نقل شهادة بعض من كفُّوا عن القتال، و تركوا السلاح، و نزلوا من الجبال، بسبب وقوفهم على فتاوى علماء السلفية، التي أطبقت على أنه لا جهاد في الجزائر، إنما هي ثورة خوارج، و قتالٌ عبثيٌّ لا يمتُّ للإسلام بِصِلَة! و من أُناس بلغوا الغاية في الجهل، و قد يكون البعض منهم دسيسة على الإسلام، كما صرَّح بذلك العلامة السلفي محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، و غفر له، و ذلك في ضمن جواب له على عدد من الأسئلة، كما جاء في جريدة (الخبر الأسبوعي) [عدد 16 ـ 23 إلى 29 جوان 1999م، تحت عنوان " شيوخ السلفية في مواجهة « الجيا» "- منقول- ]، قال رحمه الله: « فإذا أراد هؤلاء الخارجون أن يخرجوا على بعض الحكام المسلمين فلْيخرجوا على الكفار المشركين، ولكنَّهم يريدون أن يَبُثُّوا الفتنَ بين المسلمين.
ولذلك فأنا في الحقيقة في شكٍّ كبير من أمرين اثنين:
ـ من إسلام هؤلاء حقيقة، أي: أخشى أن يكونوا من أعداء الإسلام تلبَّسوا بثياب المسلمين، وإن كانت الأخرى، وهي أنَّهم مسلمون فعلاً، ولكنَّهم جهلة في منتهى الجهالة .
إذن؛ الخروجُ اليوم لا يجوز إطلاقاً، لذلك نحن نرى هؤلاء الخارجين أو الدَّاعين إلى الخروج، هم: إمَّا أنَّهم مدسوسون على الإسلام، أو أنَّهم مسلمون، لكنَّهم في منتهى الجهل بالإسلام الذي أنزله الله على قلب محمدٍ عليه الصلاة والسلام ».
فالحاصل؛ أنَّ ثمة فرقٌ كبيرٌ، و بونٌ شاسعٌ بين الجهاد الشرعي، الذي هو « ذِروة سَنَامِ الإِسلَام » كما في الحديث الصحيح عن معاذ رضي الله عنه[ " صحيح الجامع "(5136)] ، و بين الجهاد البدعي، الذي هو عبارة عن ثورات خارجية، و فتنٌ هوجاء، قائمة على الجهل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله في " الرد على الأخنائي "(ص215): « والكتاب والسنة مملوءان بالأمر بالجهاد وذكر فضيلته، لكن يجب أن يعرف الجهاد الشرعي الذي أمر الله به ورسوله من الجهاد البدعي، بجهاد أهل الضلال الذين يجاهدون في طاعة الشيطان وهم يظنُّون أنهم مجاهدون في طاعة الرحمن، كجهاد أهل البدع والأهواء، كالخوارج ونحوهم الذين يجاهدون في أهل الإسلام.. .»انتهى .
و في بيان شيء من الفوارق الأساسية التي ترمي إلى تصحيح مفهوم الجهاد، و قطع السبيل على من يريد إصباغ الثورات العبثية به -، يقول شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله في رسالته القيِّمة " شرف الانتساب إلى مذهب السلف وجوانب الافتراق مع ما يُسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية":
« من حيث مفهوم الجهاد:
أمَّا من حيث مفهوم الجهاد و شروطه- بغضِّ النظر عن نبل المقصد الجهاديِّ- إذ هو ذروة سنام الإسلام و أفضل فرائضه بعد الأركان الخمسة، فإنَّ الجهاد - بمفهومه الواسع  عند أتباع السلف ينضبط بشرطٍ منها: أن يكون من حيث مبدأُه- مشروعًا و موكولًا إلى الإمام العامِّ و اجتهاده، و تلزم الرعيَّة طاعتُه فيما يراه من ذلك[ أحال الشيخ هنا إلى كتاب " المغني"]، فضلًا عن إعداد العُدَّة المادِّيَّة و شرعية الراية، و نحو ذلك ممَّا ينضبط به الجهادُ في سبيل الله، و المسائل الأُخرى المتعلِّقة به .
غير أنَّ المنطلقاتِ الجهاديةَ عند أصحاب السلفية الجهادية المخالفة للمنهج السلفيِّ الحقِّ تكمن في تأسيس حركتهم على مبدإ عدم العذر بالجهل في المسائل العقدية، و في طليعة ذلك الحكم بغير ما أنزل الله، بعيدًا عن الضوابط و المقاصد المرعيَّة .
الأمر الذي انجرَّ عنه تكفير الحكَّام المسلمين لعدم تحكيمهم لشريعة الله تعالى، ثم سرى التكفيرُ تبعًا لهم- على سائر الرعيَّة، و من خلال تلك المنطلقات صارت دار الإسلام عندهم- دار حربٍ و جهادٍ، و بغضِّ النظر عن صحة ماهيَّة دار الكفر و دار الإسلام، و صفتها فقد أخذ مفهومُ «الجهاد» عند السلفية الجهادية طابعًا حركيًّا تشكَّل في فِرَقٍ ثوريةٍ قائمةٍ على نزع اليد من طاعة أولي الأمر وكلِّ أعوانهم والخروج عليهم قولًا وعملًا بالثورة عليهم وما يعقبها مِن إحداث الفوضى الاجتماعية والاضطرابات الأمنية لزعزعة كيان الدولة المسلمة.
فظهر جهادُهم الثوريُّ في غير المسلك السلفيِّ الصحيح الذي يريدون الانتماءَ إليه ظلمًا وكذبًا وزورًا بترويع الآمنين والمعاهدين والمستأمنين وسفك دمائهم بالعمليات الانتحارية والتفجيرية والاغتيالات وإتلاف المنشآت وتخريب الممتلكات، وهذا ما تأباه السلفية في عدلها واعتدالها بين المناهج الأخرى وتنكر قُبْحَه، وبذلك يتحوَّل المجاهدون إلى ثوَّارٍ في مبارزة الحاكم ومنازعته الحكمَ، متَّخذين اصطلاحَ السلفية دِرْعًا وتُرْسًا للتعمية والمغالطة ». [ " مجالس تذكيرية "(ص 298- 300)] .
و انطلاقًا من هذه الحقائق؛ صرَّح الشيخ فركوس حفظه الله بأنه: « لا شرعيَّةَ للفِرَقِ الجهاديَّةِ المُعاصِرةِ القائمةِ على الخروجِ على الحاكم المسلم، والثائرةِ عليه بالحديد والنار، كما لا شرعيَّةَ لهم في مُقاتَلةِ الكُفَّار إلَّا بإذنِ الإمام العامِّ القائم بالجهاد، أو تحت إمارته أو إشرافه، أو تحت إمارةِ مَنْ عيَّنهم لأمرِ الجهاد، ويَلْزَمُ الرعيَّةَ طاعتُه فيما يراهُ مِنْ ذلك »[ " التلازم الحقيقي بين الطائفة المنصورة و عملها الجهادي"، ضمن " مجالس تذكيرية "(ص320)] .
النُّقطَةُ الخَامِسَةُ:
التَّشديدُ عَلىَ حُرمَةِ دِمَاءِ المسلِمِين
و تُعتبر هذه النقطة- من النِّقاط المهمَّة التي يتجلَّى من خلالها دور مشايخ السلفية العظيم- في القضاء على الفتن، و التخفيف من حدَّتها بعد حدوثها، و الإسهام في مُعالجتها بعد وقوعها، و قد أوضحتُ -سابقًا- بأنَّ مرحلة « التكفير» هي المرحلة الأساس التي يتولَّد منها الخروج و القتل والتدمير، و ذلك أنَّ اعتقاد كفر الحاكم، معناه انتفاء الحرمة عن دمه، و هو ذريعة الخروج عليه، و غطاء الخارجين الذي يُبرِّرون به لثوراتهم ضد الأنظمة، و قتالهم للحكام، و لهذا كان أوَّل ما ذكَّر به علماءُ السَّلفية الجماعات المسلحة في خطاباتهم التي وجَّهوها إليهم، أو في مكالماتهم الهاتفية معهم: حرمة دماء المسلمين، كما تراه في خطاب العلامة العثيمين رحمه الله لما يُسمى « بالجماعة السلفية للدعوة و القتال » حيث و بعد أن طلب منه السائل أن يُجيبَه على بعض الأسئلة و الاشكالات، قاطعه الشيخ قائلًا: دعني أتكلم قليلًا: ثم قال:
الحمد لله رب العالمين، و أصلي و أسلم على نبينا محمد و على آله و أصحابه و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنني من عنيزة القصيم المملكة العربية السعودية- و في أول يوم من رمضان عام عشرين و أربعمائة و ألف، أتحدَّث إلى إخواني في الجزائر، و أنا مُحبُّهم: محمد بن صالح آل عثيمين.
أقول لهم: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرَّر في حجَّة الوداع تحريم دمائنا و أموالنا و أعراضنا، تقريرًا واضحًا جليَّا بعد أن سأل أصحابه عن هذا اليوم، و الشهر، و البلد، و قال: «إنَّ دِماءكُمْ، وَأمْوَالَكُمْ، وأعْرَاضَكُمْ، حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، ألا هَلْ بَلَّغْتُ »[ متفق عليه]، فهذا أمرٌ مُجمعٌ عليه، لا يختلف فيه اثنان »انتهى .
و بعد الشروع في الأسئلة، -و كان طرحها على الشيخ في اتصالين هاتِفيَّين- قال السائل: أنا أُركِّز على أهم ما يُمكن أن يُؤثِّر على الإخوة عندنا يعني- المقاتلين حتى يرجعوا إلى الصواب .
فقال الشيخ ابن عثيمين: طيب، فتوكل على الله .
فقال السائل: إن شاء الله أهم قضية يا شيخ- ادعاؤهم أنكم لا تعلمون واقعنا في الجزائر، و أن العلماء لا يعرفون الواقع في الجزائر، و أنكم لو عرفتم أننا سلفيين، أنَّ هذا سيُغيِّر فتواكم، فهل هذا صحيح؟
فقال الشيخ: هذا غير صحيح، و قد أجبنا عنه بالأمس، و قلنا مهما كانت المبالغات فإراقة الدماء صعب، فالواجب الكف الآن و الدخول في السِّلم ».
و الشاهد من هذا النَّقل؛ هو تركيز العلامة العثيمين رحمه الله- على حرمة دماء المسلمين، و إلفات نظر الجماعة المسلحة إلى هذا الأمر المُجمع عليه، و إلزامهم - انطلاقًا منه - بالكف عن القتال، و الدخول في السِّلم .
و قريبًا منه؛ كلام العلامة الألباني في ضمن جوابه على الأسئلة-المُشار إليها سابقًا و التي نشرتها جريدة (الخبر الأسبوعي)، حيث قال - رحمه الله-: « نصيحتنا نحن دائمًا تتوجه إلى عامة المسلمين فضلًا عن هؤلاء-يعني الجماعات المسلحة- .
أوَّلًا: أن يرتدعوا عن سفك دماء المسلمين، و تكفير المسلمين »انتهى .
و في هذا المعنى يقول شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله- كما في رسالته " حكم التفجيرات و مخلفاتها السَّيِّئة ":
« ولا يخفى أنَّ شريعةَ الإسلامِ تأمرُ بالمحافظةِ على الضَّروريَّاتِ الخمسِ، ودماءُ المسلمين وأموالُهم وأعراضُهم محرَّمةٌ لا يجوز الاعتداءُ عليها بنصِّ قولِه تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء: ٩٣]، وقولِه تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢]، وقولِه صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»أخرجه مسلم (٦٧٠٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] ، وقولِه صلّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»[ " متفق عليه"]، وقولِه صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»[صححه الألبانيّ في «صحيح الجامع»: (٥٠٧٧)] ، وعن عبدِ اللهِ بْنِ عمرٍو رضي الله عنهما قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَيَقُولُ: « مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ الله حُرْمَةً مِنْكِ، مَالُهُ وَدَمُهُ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا»[ حسنه الألباني في «السِّلسلة الصحيحة» برقم: (١٢٥٠)] .
وعليه، فإنَّ اتِّخاذَ وسيلةِ التَّفجيرِ والتَّدميرِ والتَّخريبِ والاغتيالِ والانتحارِ يهدم هذا الأصلَ المقاصديَّ، ويخالفُ نصوصَ الشَّرعِ الآمرةَ بوجوبِ المحافظةِ عليه » [ " مجالس تذكيرية "(ص371-362)] .
النُّقطَةُ السَّادِسَة
التَّذكِيرُ بِقَوَاعِد الأَمرِ بِالمعرُوفِ وَ النَّهيِ عَنِ المنكَر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أصول الإسلام الكبار، و واجبٌ من واجبات الدِّين العظام، و هو أحد ميزات هذه الأمة التي امتازت بها عن سائر الأمم، و فُضِّلت بها عليهم، قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِالله } [ آل عمران : 110 ] .
بيد أنَّ الخوارج قد حرَّفوا هذا الأصل، و انحرفوا في فهمه، و غلوا في تطبيقه و أساءوا في ذلك أيَّما إساءة؛ حيث أهملوا قيوده، و لم ينضبطوا بضوابطه، و لم يتقيَّدوا بشروطه، و اتَّخذوا منه ذريعة لخلع الحكام، و الخروج عليهم و منابذتهم بالسيف و السلاح، و جعلوا منه مُبرِّرًا لثوراتهم المشئومة على الأنظمة!
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في " إغاثة اللهفان "(2/81): « وأَخرَجتِ الخوارجُ قِتالَ الأئمة، والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر »انتهى .
و مثلهم فعَلَ المعتزلة، إذ هم على دربهم في هذا الباب- يسيرون، و في فلكهم يسبحون .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما في " مجموع الفتاوى "(13/386): « أصول المعتزلة خمسة، يسمونها التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. .
و الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يتضمن عندهم جواز الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف »انتهى .
و ها هو أحد رؤوس الخوارج في هذا العصر، -و هو المسمى أيمن الظواهري- يُقرِّر هذا المعنى و يُؤكِّده، و ذلك في كتابه " اللقاء المفتوح "(ص37)، حيث قال
: « طالبتُ جميع الناس، و ليس الشباب فقط في كلِّ حيٍّ و شارع، و قرية و مسجد، و جامعة و معهد، و نقابة و اتِّحاد و مصنع، بالتصدي لظلم و فساد الشرطة بكافة الوسائل؛ قيامًا بفريضة الأمر بالمعروف و النَّهيِ عن المنكر »[ انظر كتاب " القصة الكاملة لخوارج العصر "(ص 350)] .
فالخوارج الثوريون يخرجون على الحكام، و يسعون في خلعهم، باسم النهي عن المنكر، و يفتعلون الفتن و الثورات تحت شعار: النهي عن المنكر! و هو منهم- شعارٌ أجوف مُفرَّغٌ من كلِّ الضوابط و الشروط التي لا يستقيم هذا الباب إلا بها؛ فلذلك تولَّد عنه من الفتن، في القديم و الحديث، ما لا يعلمه إلا الله .
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في "إعلام الموقعين " (3/14-16): « إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله.
وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم ؟ فقال:« لا ما أقاموا الصلاة »[ أخرجه مسلم (1855)].
وقال: « من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينـزعن يدًا من طاعته »[متفق عليه] .
ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولَّد ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه »انتهى .
* و كلُّ هذا الذي ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله- من أنَّ : « الإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم: أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، و أنَّ ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار إنما سببه إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، طلب من طلب- إزالته فتولَّد ما هو أكبر منه » .
كلُّ هذا؛ نعيشه، و نُعايشه، و نراه بأمِّ أعيننا، فهؤلاء هم العلماء حقًّا، الذين قيل في مثلهم: « الفتنة إذا أقبلت لا يعرفها إلا العلماء، فإذا أدبرت عرفها كلُّ جاهل!»، نعم؛ لا يعرفها الجهال إلَّا بعد إدبارها، و بعد مُعاينتهم للدمار الشامل الذي تُخلِّفه من ورائها، و أمَّا قبل ذلك فهي لهم- كسمِّ الفأر، الذي يجد لذَّته في أوله، و هلاكه في آخره .
قَالَ امْرُؤُ القَيسِ:
الحَرْب أَوَّل مَا تَكُونُ فَتِيَّةً ** تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا ** وَلَّتْ عَجُوزاً غَيرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ ** مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ
إنَّ إنكار المنكر، له شروطه و ضوابطه، التي لابدَّ من توفُّرها للقيام به، سيما إذا تعلَّق الأمر بولاة الأمور و الحكام، و إلَّا تولد عنه من المفاسد الدينية و الدنيوية ما يربو على منكرات ولاة الأمور بالأضعاف المضاعفة، كما قرَّره العلامة ابن القيم رحمه الله في كلامه السابق، -و كذا- غيره من أئمة الإسلام، و الواقع الذي ماله من دافع- أكبر شاهد كما يُقال .
* و في بيان بعض هذه الشروط و الضوابط، يقول شيخنا العلامة محمد علي فركوس في رسالته " شرف الانتساب إلى مذهب السلف وجوانب الافتراق مع ما يُسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية ": « الجهاد ـ بمفهومه الواسع ـ عند أتباع السلف ينضبط بشروطٍ..، غير أنَّ المنطلقاتِ الجهاديةَ عند أصحاب السلفية الجهادية المخالفة للمنهج السلفيِّ الحقِّ تكمن في تأسيس حركتهم على مبدإ عدم العذر بالجهل في المسائل العقدية، و في طليعة ذلك الحكم بغير ما أنزل الله، بعيدًا عن الضوابط و المقاصد المرعيَّة »، ثم علق الشيخ على كلامه هذا في الحاشية، فقال:« أمَّا المقاصد الشرعية فإنَّ المعلوم في القواعد الشرعية العامَّة أنَّ إزالة المفسدة بمثلها أو بما هو أعظم منها لا يجوز شرعًا بالإجماع، فالضرر ـ إذن ـ يُزال بلا ضررٍ، ولهذا قال الشيخ عبد العزيز بن بازٍ ـ رحمه الله ـ في «مجموع فتاويه» (٨/ ٢٠٤) في مَعْرِض بيان إزالة السلطان الكافر: «أمَّا إذا لم تكن عندهم قدرةٌ فلا يخرجون، أو كان الخروج يسبِّب شرًّا أكثر فليس لهم الخروج، رعايةً للمصالح العامَّة، والقاعدة الشرعية المجمع عليها أنه: لا يجوز إزالة الشرِّ بما هو أشرُّ منه، بل يجب درءُ الشرِّ بما يزيله أو يخفِّفه، أمَّا درءُ الشرِّ بشرٍّ أكثرَ فلا يجوز بإجماع المسلمين»[ " مجالس تذكيرية "(ص299-300)] .
فلا يجوز الإنكار على الحكام بالخروج عليهم إذا كان يُؤدي إلى ما لا تُحمدُ عاقبته من المفاسد و الفتن و الشرور، و ذلك بالإجماع- كما أفاده شيخ الإسلام ابن باز رحمه الله- فيما نقله عنه شيخنا فركوس-، إذ المقصود من إنكار المنكر: إزالته أو التخفيف منه ما أمكن، أمَّا استبداله بما هو أنكر منه، أو بما هو أفظع و أشد فليس من العقل و لا من الحكمة، فضلًا عن أن يكون من الشرع!
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-في " إعلام الموقعين " (3/16): « فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدلٌ كلُّها ورحمةٌ كلٌّها ومصالح كلُّها وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضِدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل » انتهى .
و من هنا؛ حكمَ علماءُ السُّنة بالفساد؛ على جهاد الخوارج-المزعوم- و كشفوا زيفه، و بيَّنوا بأنه لا علاقة له بالجهاد الشرعي، و إنما هو عبارة عن فتن و ثورات لم تراع فيها القواعد الشرعية في المصالح و المفاسد، و لم تُحترم فيها ضوابط الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما واجه علماءُ السلفيةِ الخوارجَ بهذا في أوجِّ فتنتهم في بلاد الجزائر، و أبطلوا به ثورتهم، و حكموا عليها بأنها عبارة عن فوضى .
فهذا العلامة العثيمين رحمه الله تسأله الجماعات المسلحة-في مكالمة هاتفية- : هل يستلزم-يعني لو فرضنا كفر الحاكم- هل يستلزم الخروج عليه بدون شروط-يعني-؟
فأجاب الشيخ رحمه الله: لا! لابدَّ من شروط، ذكرتها آنفًا..، لو فُرض أنه كافر مثل الشمس في رابعة النهار، فلا يجوز الخروج عليه إذا كان يستلزم إراقة الدماء، و استحلال الأموال »انتهى.
و قال رحمه الله:« و العجبُ من قوم يفعلون هذا و لم يتفطنوا لما حصل في البلاد الأخرى التي سار شبابها على مثل هذا المنوال! ماذا حصل؟! هل أنتجوا شيئًا؟! بالأمس تقول إذاعة لندن: إنَّ الذين قُتلوا من الجزائريين في خلال ثلاث سنوات بلغوا أربعين ألفًا! أربعون ألفًا! عددٌ كبير خسرهم المسلمون من أجل إحداث مثل هذه الفوضى » [ " نفس المكالمة السابقة ] .
و هذا العلامة ربيع المدخلي حفظه الله، يُناقش الثوار -في مكالمة هاتفية- و هم في رؤوس الجبال، - لإقناعهم بالكف عن القتال و النزول من الجبال، من خلال تذكيرهم بالمفاسد العظيمة التي ترتبت عن ثورتهم و انجرَّت عن فتنتهم التي غُيِّبت فيها شروط الأمر بالمعروف و النَّهي عن المنكر، و فُقدت فيها قواعده.
و فيها قال الشيخ مُخاطبًا من كان مُفوَّضًا من قبل الجماعة لسؤاله: هذه ثمان سنوات ما هي ثمار هذا القتال؟ ماذا استفاد المسلمون من هذا الجهاد؟
قال السائل: لحدِّ الآن لا شيء يا شيخ!
الشيخ: كم قُتل، وكم من المال، وكم من الأعراض انتُهكت، وكم، وكم ... ؟
السائل: الكثير! الكثير!.. .
الشيخ: أليس لكم عبرة في هذا ؟! أليس هذا برهانًا على أنَّ هذا الجهاد جهادٌ كان منطلقًا من جهل، ومن فتاوى ـ يعني نسأل الله العافية ـ لم يستنجدوا بالعلماء، واتخذوا أصحاب الشرور رؤوسًا جهالًا، فيُفتون بغير علم، فيَضلُّون ويُضلِّون، ولم يقفوا عند حدِّ الضلال والإضلال، بل تجاوزوه إلى سفك الدِّماء وهدم الإسلام.. .
وهم ليس لهم إلاَّ مصارعة الحكام، ولا همَّ لهم إلاَّ أن يتسنَّموا قمة الحكم فقط، ثم بعد ذلك يديرون ظهورهم للإسلام، كما فعل أمثالُهم في السودان وفي تركيا وفي غيرها.. .
السائل: شيخنا! على حسب قولكم إذًا لا يمكن الحكم بكفر حاكم من الحكام وإن كان يحكم بغير ما أنزل الله حتى يحكم عليه العلماءُ بذلك.
الشيخ: نعم! حتى يرى العلماءُ فيه كفرًا بواحًا، ثم بعد صدور الفتوى هل يُقاتَل أو لا يُقاتل؟..
فلو كان الحاكم كافرًا كفرًا بواحًا، في الجزائر وفي غيرها لكان يجب أن يُرجع في ذلك إلى العلماء، فهم الذين يُقدِّرون المصلحةَ والمفسدةَ، ومتى يُشرع القتال ومتى لا يُشرع إلخ، لا للسفهاء والجهلة وأصحاب الأهواء الطامحين إلى المُلك، فهذا من الخطأ، وقد عرفتم حصاد هذا التهوُّر » .
فانظر كيف أبطل العلامة ربيع المدخلي حفظه الله جهاد الخوارج في الجزائر، و سمَّاه: تهوُّرًا، كما أبطله قبله العلامة العثيمين رحمه الله- و سمَّاه: فوضى .
بعد أن أوقفوهم على مآلاته الوخيمة، و مفاسده العظيمة، التي توجب الكفَّ عنه، بل عدم القيام به أصلًا!
فأيُّ جناية على الشرع أعظم من أن تُنسبَ إليه هذه الفوضى، و أيُّ ظلم و تشويه للجهاد الشرعي الشريف أشدُّ من أن يُلصق به هذا التَّهوُّر؟!
فإن قال قائلٌ: قد عرفنا بطلان طريقة الخوارج و الثوريين في الإنكار على ولاة الأمور، و عدم شرعية جهادهم الذي أعلنوه ضدَّ الحكام باسم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فما هي الطريقة الصحيحة في الإنكار عليهم-إذن-؟
و الجواب: هي طريقة أهل السنة و الجماعة السلفيين، المستمدةُ من النصوص الشرعية كتابًا و سُنَّة، و من الآثار السلفية عن الصحابة و التابعين، و من سيرة أئمة الإسلام المُقتدى بهم الذين اتفقت الأمة على جلالتهم، و أجمعت على هِدايتِهم و دِرايَتهم .
و قد لخصها شيخنا العلامة محمد علي فركوس، في رسالته " حكم التشهير بالحكام و التشنيع عليهم"، مستفيدًا إيَّاها ممن سبقه من الأئمة و العلماء .

قال حفظه الله فإنَّ طريقةَ أهلِ السنَّة السلفيِّين في الإنكار على وُلَاةِ الأمرِ ومَوْقِفَهم مِنْ إبداءِ النصيحةِ لهم هي وَسَطٌ بين الخوارجِ والروافض، حيث إنَّ الخوارج والمعتزلة يُجيزون الخروجَ على الحاكم إذا فَعَلَ مُنْكَرًا، بينما الروافضُ يَكْسُون حُكَّامَهم ثوبَ القداسة، ويُنْزِلونهم مرتبةَ العصمة؛ أمَّا سبيـلُ أهلِ السنَّة والجماعة السلفيِّين فوجوبُ الإنكار، لكِنْ بالضوابط الشرعية الواردةِ في السنَّة المطهَّرة التي كان عليها سَلَفُ الأُمَّة.
فمَنْهَجُ أهلِ السنَّة والجماعة في مُناصَحةِ وُلَاةِ الأمر فيما صَدَرَ منهم مِنْ مُنْكَراتٍ أَنْ يُنـاصِحُوهم بالخطاب وعظًا وتخويفًا مِنْ مَقامِ الله تعالى وبالسرِّ وبالرِّفق لقوله تعالى ـ مُخاطِبًا موسى وهارون عليهما السلام حين أَرْسَلَهما إلى فرعون ـ: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى[طه:44] ، هذا إِنْ وصلوا إليهم، أو بالكتابة والوساطة إِنْ تَعَذَّرَ الوصولُ إليهم؛ إذ الأصلُ في وَعْظِهم أَنْ يكون سِرًّا، وإذا طلبوا تقديمَ النصيحةِ أمامهم عَلَنًا وفَتَحوا على أَنْفُسهم بابَ إبداءِ الرأي والانتقادِ وأَذِنوا فيه؛ فيجوزُ نصيحتُهم بالحقِّ مِنْ غيرِ هَتْكٍ للأستار ولا تعييرٍ لمُنافاتِهما للجانب الأخلاقيِّ، ولا خروجٍ ـ بالقول أو الفعل ـ لمُخالَفتِه لمنهج الإسلام في الحكم والسياسة، قال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «وقال جماهيرُ أهلِ السنَّةِ مِنَ الفُقَهاء والمُحدِّثين والمتكلِّمين: لا ينعزل بالفسق والظلمِ وتعطيلِ الحقوق، ولا يُخْلَعُ ولا يجوز الخروجُ عليه بذلك، بل يجب وَعْظُه وتخويفُه للأحاديثِ الواردةِ في ذلك»، مع تحذيرِ الناسِ مِنْ هذه المُنْكَراتِ والبِدَعِ والمَعاصي عمومًا دون تعيينِ الفاعل أو الإشارةِ إليه أو تخصيصِ بعضِ صفاته التي يُعْرَفُ بها، كالتحذير مِنَ الزِّنا والرِّبا والظلمِ وشُرْبِ الخمر ومُحْدَثات الأمور ونحوِها عمومًا مِنْ غيرِ تعيينٍ، أي: يكفي الإنكارُ على المَعاصي والبِدَعِ والتحذيرُ منها دون تعيينِ فاعِلِها بالسبِّ أو اللعن أو التقبيح؛ فإنه يُفْضي إلى الحرمان مِنَ الخير والعدل، قال بعضُ السلف: « ما سَبَّ قومٌ أميرَهم إلَّا حُرِموا خيرَه »[«التمهيد» لابن عبد البرِّ (٢١/ ٢٨٧)]، وقال آخَرُ: « مَنْ لَعَنَ إمامَه حُرِمَ عَدْلَه »[ «سِيَر أعلام النُّبَلاء» للذهبي (٩/ ٣٤٢)] .
ومعنى ذلك أنَّ أهل السنَّةِ السلفيِّين يُنْكِرون ما يأمر به الإمامُ مِنَ البِدَعِ والمَعاصي ويُحذِّرون الناسَ منها ويأمرونهم بالابتعاد عنها مِنْ غيرِ أَنْ يكون إنكارُهم على وُلَاةِ الأمور في مَجامِعِ الناسِ ومَحافِلِهم، ولا على رؤوسِ المَنابِرِ ومَجالِسِ الوعظ، ولا التشهيرِ بعيوبهم ولا التشنيعِ عليهم في وسائلِ الإعلام بأنواعها المُخْتَلِفةِ..؛ لأنَّ ذلك يُؤدِّي إلى تأليبِ العامَّة، وإثارةِ الرَّعاع، وإيغارٍ لصدور الرعيَّة على وُلَاةِ الأمور وإشعالِ الفتنة، ويُوجِبُ الفُرْقةَ بين الإخوان، وهذه النتائجُ الضارَّةُ يأباها الشرعُ وينهى عنها، و« كُلُّ مَا يُفْضِي إِلَى حَرَامٍ فَهُوَ حَرَامٌ»، و« الوَسَائِلُ لَهَا حُكْمُ المَقَاصِدِ» [ " مجالس تذكيرية "(ص354-356)] .
فأيُّ دليل أدلُّ من هذا يطلبه المكابرون، على براءة السلفية من الأفكار المتطرفة ، و من التوجُّهات الخارجية الثورية، و من إراقة الدماء، و افتعال الفتن؟!، و أيُّ بُرهانٍ يُريدونه أوضح من هذا، على جهد مشايخ السلفية- المشكور- في محاربة هذه التوجُّهات المتطرِّفة الهدامة التي هم بريئون منها براءة إبراهيم عليه السلام من اليهودية و النصرانية؟! { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ].
إنَّ الواقع، و التاريخ، كلاهما يشهدان بذلك، و إن جحده الجاحدون، و أنكره المنكرون المُكابرون، و سعوا في تغطيته و التعمية عليه .
ألا فليعلم العقلاء، و الأحرار؛ أنه بمثل هذه التوجيهات السديدة، و الجهود المخلصة المباركة، من قبل مشايخ السلفية، دُفِعَت- و تُدفعُ- الفتن، عن هذه الأمة، و يتحقَّق لها الأمن و الاستقرار، و تُحفظ لها مُقدَّراتها، بإذن الله تعالى-، فليكن هذا على بال كلِّ من يجهد نفسه لاستتباب الأمن و الاستقرار الحقيقي و الدَّائم !
هذا؛ و لا يفوتني في الأخير- أن أُنبِّه إلى ما تعرَّض له مشايخنا – من مضايقات و أنواع من الأذى و التهديدات - في سبيل الصدع بهذا الحق، و الوقوف في وجه أصحاب الأفكار الخارجية الهدامة، و المناهج التكفيرية المتطرفة التي تُهدِّد أمن البلاد و استقرارها، و الله المستعان .
و من ذلك ما أفصحت به إدارة موقع شيخنا الدكتور محمد علي فركوس حفظه الله في مقال " تنبيه أُولي البصائر في ردِّ مقولةِ: وماذا قدَّم الدكتور فركوس للجزائر "، فقد جاء فيه : « و شهادةً للتاريخ: فإنَّ الشيخ أبا عبد المُعِزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ قد تعرَّض لتهديداتٍ بالقتل مِنْ طرف الجماعات المسلحة إبَّانَ سنوات الإرهاب وكذلك بعده، ولم يكن ذلك دافعًا له لمغادرتِه وطنَه، مع وجودِ إغراءاتٍ دنيويةٍ تستهوي عُشَّاقَ المناصب، وتُغري اللاهثين خلف الشهرة لتولِّي مناصبَ عُليَا في جامعاتٍ خارجيةٍ، فضلًا عن أَنْ يَثنِيَ مِنْ عزمه في محارَبةِ هذا الفكرِ الدخيل، بل ظلَّ مجاهدًا في سبيل إنقاذ مَنِ ابتُلِيَ بداء الغلوِّ والتطرُّف، ومنافحًا بقَلمه وعِلمه لإرساء مَعالِمِ الوسطية والاعتدال »انتهى .
فاللهم آمنَّا في أوطاننا و أصلح أئمتنا و ولاة أمورنا و اهدهم سبل الرشاد ،و وفقهم لما فيه صلاح الإسلام و المسلمين، و اجعل هذا البلد -الجزائر- آمنا مطمئنًّا سخاء رخاء و سائر بلاد المسلمين .
آخره، و صلى الله و سلم على عبده و رسوله نبيِّنا محمد، و على آله و صحبه أجمعين، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
و سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك و أتوب إليك .
كتبه: أبو بسطام إبراهيم بويران الأخضري الجزائري كان الله له.
بودربالة- الأخضرية- الجزائر 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الغيرة ،،، والدياثة