ظلام التنوير (ج 1)
الشيخ د.
سعيد بن سالم الدرمكي
حفظه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد .
إخواني الأفاضل
ظهر على الساحة الإعلامية وفي وسائل التواصل الاجتماعي من ينادي بالتنوير وينسبه للإسلام فيقولون التنوير الإسلامي، وظهر بعض المنحرفين فكريا وعقائديا وهو يثني على بعض الجهلة ويصف أسلوبه وخطابه بأنه تنويري، مع وصفهم لمن يتمسك بالسنة بالظلامية والتشدد .
فما هو هذا التنوير المزعوم، وهل فيه شيء من نور الإسلام الذي أرسل الله به رسله؟
سنتعرف أولا على النور الذي ذكره الله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم نتعرف ثانيا على الفكر التنويري المزعوم وأصوله.
أولا : اعلم أخي القارئ الموفق أن الله سبحانه وتعالى قد بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالنور الذي كشف به ظلام الجاهلية والكفر، ولا يَعلم بهذا النور إلا من استشعرَ نعمةَ الإسلامِ والسنة ، قال تعالى ممتناً على البشرية بنور الوحي : " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ" [المائدة:15] .
اتباع هذا النور الذي ذكره الله في كتابه ممتناً به على عباده سببٌ لسلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الله، وسببٌ لنيل هداية الله سبحانه وتعالى، قال تعالى بعد الآية السابقة " يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" وقال سبحانه : "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا" [الشورى: 52] ، وإنما يحصّلُ العبدُ هذا النور في الدنيا باتباعه لنبيهِ صلى الله عليه وسلم ولزومِ نهجهِ وسنتهِ، قال تعالى " فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف: 157].
واتباع هذا النور الذي أنزله الله وجاء به نبيه صلى الله عليه وسلم له أثرهُ في النورِ الذي يكون مع العبد يوم القيامة، فعلى قدر تَنوّره بنور الله في الدنيا على قدرِ ما يكون معه من النور يوم القيامة قال تعالى : " يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" وروى الطبراني وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر صفة الحشر والشفاعة والصراط فقال : " فَيُعْطِيهِمْ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ رَجُلًا يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً وَيَفِيءُ مَرَّةً، فَإِذَا أَضَاءَ قَدَّمَ قَدَمَهُ فَمَشَى، وَإِذَا طُفِئَ قَامَ ... فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ نُورِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالسَّحَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَانْقِضَاضِ الْكَوْكَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الْفَرَسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي أُعْطِيَ نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمَيْهِ يَحْبُو عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ تَخِرُّ رِجْلُ، وَتَعْلَقُ رِجْلٌ، وَيُصِيبُ جَوَانِبَهُ النَّارُ"
والمنافقون يطلبون هذا النور الذي رأوه في الدنيا وتمسكوا به ظاهراً وكفروا به باطناً، فإذا رأوا أثر هذا النور يوم القيامة طلبوه وسعوا إليه ولكن أنّى لهم أن ينالوا منه نصيباً وقد أعرضوا عنه في الدنيا ، قال تعالى في وصف حالهم: " يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ، يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ." [الحديد:13-14].
فهذا هو النور الذي نعلمه من كتاب ربنا وسنة نبيا صلى الله عليه وسلم، ولكن ظهر لنا في هذه الأزمان من تسمى بالنور، وأضفى على فكره المنحرف وصف النور في مقابل الظلام، ليخدع نفسه أولا، ثم يخدع عامة الناس من المثقفين بمعسول كلامه، وحقيقته أنه يدعوهم لظلام الجاهلية التي كشفها الله بنور الوحي، مع محاربته للوحي بفكره المظلم المستورد من أعداء الإسلام، ومحاربته لجميع الشرائع المنزلة على أنبياء الله تعالى، فأطلق على متبعي الوحيين من الكتاب والسنة لقب الظلاميين، ولقب التنوير والتنويريين على كل من قدم العقل على الوحيين، بل العجب أن ينسب التنوير للسنة فيقول التنوير السني، فمثله كمل من يقول الشرك التوحيدي والكفر الإيماني، فيجمع بين المتناقضات .
وأمثال هؤلاء في كل عصر يخرجون، فحالهم كحال أهل النفاق زمن النبي صلى الله عليه وسلم يسعون لضرب الإسلام من الداخل بمحاولة هدم الأصول التي يقوم عليها، وذلك بالطعن في الكتاب والسنة والعلماء ولكن بأسلوب خبيث، ظاهره نصرة الإسلام وباطنه العداوة والبغضاء، قال ابن تيمية -رحمه الله- ( وهو من ألد أعداء التنويريين) : " وأما هؤلاء: فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله ويظهرون كلام الكفار والمنافقين في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنا وليا لله فيصير منافقا عدوا لله " مجموع الفتاوى (2/360)
فما هو التنوير المزعوم ؟
التنوير فرع عن الليبرالية، والليبرالية فرع عن العلمانية، وكل هذه المسميات هدفها الرئيس الطعن في الدين وفي جميع الشرائع التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله، مع تقديسهم للعقل والحرية، فهم في الحقيقة يخدمون الماسونية العالمية والفكر الإلحادي.
ظهر التنوير في القرن السابع عشر عام 1671م تقريبا، ويرجعه بعضهم إلى ما يسمى بعصر النهضة، وإلى كتابات الفلاسفة من أمثال: بيكون و ديكارت وتوماس هوبز، ولوك وغيرهم من فلاسفة تلكم الحقبة البائسة.
وأما الأصول التي يقوم عليها التنوير الغربي فمنها : نقد الدين وعزله والاستقلال التام عن سلطته، لذلك نسمع بعض المتأثرين بهذا الفكر المنحرف ينادون بنقد كل ما هو موروث وقصدهم بذلك نقد الدين وأحكامه وفق ضابط الحرية والعقل المنحرف.
ويطلقون على كل من يتمسك بالدين لفظ ( الظلامي )، ولفظ ( النظام الكهنوتي) للدلالة على تمسك الكهنة النصارى في القرون المظلمة بالإنجيل المحرف .
ومن أصولهم: تعظيم العقل والحرية دون أن يقدموا أي تعريف لماهية العقل الواجب الرجوع إليه، ولا للحرية المرادة.
وبسبب نقدهم للدين وأحكامه، وتألهيهم للعقل وصلوا للإلحاد، وعجزوا عن الإجابة عن السؤال الذي أرقّ أغبياء العالم ممن يلمزون بالذكاء : من خلق الكون ؟ ولماذا خلق الله الكون؟
والتنوير هدفه هدف العلمانية وهو تنحية الدين عن الدولة أولاً، وعن الشعب ثانياً، فليس هدفهم كما يذكرون فصل الدين عن الدولة فقط، وإنما يسعون وبخطط مرسومه إلى تشويه الدين لدى الناس وإظهاره في صورة متخلفة.
وقد نجحوا في الغرب في ثورتهم الفرنسية البائسة التي كان هدفها القضاء على الملة النصرانية، فالدول الغربية تخلصت من الملة النصرانية تماما في حكمها، وتخلى الناس عن دينهم، وحصروه في الكاهن والكنسية وفي يوم واحد هو يوم الأحد .
ومن أصولهم المناداة بالحرية والتسامح، ويقصدون بالحرية التخلص من أحكام النصرانية المحرفة التي تنادي بها كنائس العصر المظلم في أوربا، والتحرر من القيم الأخلاقية، وبالتسامح حرية التدين وعدمه أو الإلحاد.
ولكن هذه الحرية في الحقيقة حرية كاذبة زائفة لأنها تحارب كل من ينتقد التنوير وتعاديه، ويظهرونه أمام الخاصة والعامة بأنه ظلامي ومتشدد ومحارب للعقل والحرية والتسامح.
وهذا التنوير بهذه الصورة مرفوض تماما عند المسلمين، سواء كانوا من العوام أوالمثقفين، فكان لا بد من استحداث مصطلح ينطلي على المثقفين بالذات، فيروجون له عند العامة، فظهر ما يسمى بالتنوير الإسلامي .
قال محمد عماره في كتابه " الإسلام بين التنوير والتزوير ص 34 : " فوجود تنوير غربي له السمات الخاصة التي أشرنا إلى أهمها لا يمنع من الحديث عن تنوير عربي إسلامي تتحدد مضامينه ومفاهيمه وفقا للمرجعية الحضارية الإسلامية المتميزة عن المرجعية الغربية"
ولكن هل ما ذكره عماره من أن التنوير الإسلامي يختلف في مضمونه عن أصول التنوير الغربي صحيح ؟
فالجواب : أبدا. بل هما وجهان لعملة واحدة .
فيقدمون العقل على النص، ويطالبون بنقد كل ما هو موروث ومنه الدين، ويطالبون بإعادة قراءة النص الديني ( الكتاب والسنة) وفق معطيات التطورات الحضارية المعاصرة، مع الابتعاد عن منهج السلف في التفسير، ويصرون على تطبيق الديمقراطية الغربية القائمة على الحرية وتقديم سيادة الأمة والشعب على سيادة الشرع، وينادون وبصراحة بفصل الدين عن الدولة، ويذمون ما يسمى بالدين السياسي، وتراهم يستعملون مصطلح ( أسلمة الدولة) ونسبته للجماعات الإسلامية السياسية المنحرفة .
إخواني القراء : هذه نبذة يسيرة عن الظلام المتضمن في الفكر التنويري غربيا كان أو إسلاميا - والإسلام منه بريء- فإذا علمنا ذلك فإن خطر أرباب هذا الفكر ومن يحملون خطاب التنوير كبير على الدين والعقيدة بل وعلى البلاد والعباد، فالواجب الحذر منهم وعدم التمكين لهم.
اتباع هذا النور الذي ذكره الله في كتابه ممتناً به على عباده سببٌ لسلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الله، وسببٌ لنيل هداية الله سبحانه وتعالى، قال تعالى بعد الآية السابقة " يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" وقال سبحانه : "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا" [الشورى: 52] ، وإنما يحصّلُ العبدُ هذا النور في الدنيا باتباعه لنبيهِ صلى الله عليه وسلم ولزومِ نهجهِ وسنتهِ، قال تعالى " فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف: 157].
واتباع هذا النور الذي أنزله الله وجاء به نبيه صلى الله عليه وسلم له أثرهُ في النورِ الذي يكون مع العبد يوم القيامة، فعلى قدر تَنوّره بنور الله في الدنيا على قدرِ ما يكون معه من النور يوم القيامة قال تعالى : " يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" وروى الطبراني وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر صفة الحشر والشفاعة والصراط فقال : " فَيُعْطِيهِمْ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ رَجُلًا يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً وَيَفِيءُ مَرَّةً، فَإِذَا أَضَاءَ قَدَّمَ قَدَمَهُ فَمَشَى، وَإِذَا طُفِئَ قَامَ ... فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ نُورِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالسَّحَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَانْقِضَاضِ الْكَوْكَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الْفَرَسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي أُعْطِيَ نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمَيْهِ يَحْبُو عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ تَخِرُّ رِجْلُ، وَتَعْلَقُ رِجْلٌ، وَيُصِيبُ جَوَانِبَهُ النَّارُ"
والمنافقون يطلبون هذا النور الذي رأوه في الدنيا وتمسكوا به ظاهراً وكفروا به باطناً، فإذا رأوا أثر هذا النور يوم القيامة طلبوه وسعوا إليه ولكن أنّى لهم أن ينالوا منه نصيباً وقد أعرضوا عنه في الدنيا ، قال تعالى في وصف حالهم: " يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ، يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ." [الحديد:13-14].
فهذا هو النور الذي نعلمه من كتاب ربنا وسنة نبيا صلى الله عليه وسلم، ولكن ظهر لنا في هذه الأزمان من تسمى بالنور، وأضفى على فكره المنحرف وصف النور في مقابل الظلام، ليخدع نفسه أولا، ثم يخدع عامة الناس من المثقفين بمعسول كلامه، وحقيقته أنه يدعوهم لظلام الجاهلية التي كشفها الله بنور الوحي، مع محاربته للوحي بفكره المظلم المستورد من أعداء الإسلام، ومحاربته لجميع الشرائع المنزلة على أنبياء الله تعالى، فأطلق على متبعي الوحيين من الكتاب والسنة لقب الظلاميين، ولقب التنوير والتنويريين على كل من قدم العقل على الوحيين، بل العجب أن ينسب التنوير للسنة فيقول التنوير السني، فمثله كمل من يقول الشرك التوحيدي والكفر الإيماني، فيجمع بين المتناقضات .
وأمثال هؤلاء في كل عصر يخرجون، فحالهم كحال أهل النفاق زمن النبي صلى الله عليه وسلم يسعون لضرب الإسلام من الداخل بمحاولة هدم الأصول التي يقوم عليها، وذلك بالطعن في الكتاب والسنة والعلماء ولكن بأسلوب خبيث، ظاهره نصرة الإسلام وباطنه العداوة والبغضاء، قال ابن تيمية -رحمه الله- ( وهو من ألد أعداء التنويريين) : " وأما هؤلاء: فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله ويظهرون كلام الكفار والمنافقين في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنا وليا لله فيصير منافقا عدوا لله " مجموع الفتاوى (2/360)
فما هو التنوير المزعوم ؟
التنوير فرع عن الليبرالية، والليبرالية فرع عن العلمانية، وكل هذه المسميات هدفها الرئيس الطعن في الدين وفي جميع الشرائع التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله، مع تقديسهم للعقل والحرية، فهم في الحقيقة يخدمون الماسونية العالمية والفكر الإلحادي.
ظهر التنوير في القرن السابع عشر عام 1671م تقريبا، ويرجعه بعضهم إلى ما يسمى بعصر النهضة، وإلى كتابات الفلاسفة من أمثال: بيكون و ديكارت وتوماس هوبز، ولوك وغيرهم من فلاسفة تلكم الحقبة البائسة.
وأما الأصول التي يقوم عليها التنوير الغربي فمنها : نقد الدين وعزله والاستقلال التام عن سلطته، لذلك نسمع بعض المتأثرين بهذا الفكر المنحرف ينادون بنقد كل ما هو موروث وقصدهم بذلك نقد الدين وأحكامه وفق ضابط الحرية والعقل المنحرف.
ويطلقون على كل من يتمسك بالدين لفظ ( الظلامي )، ولفظ ( النظام الكهنوتي) للدلالة على تمسك الكهنة النصارى في القرون المظلمة بالإنجيل المحرف .
ومن أصولهم: تعظيم العقل والحرية دون أن يقدموا أي تعريف لماهية العقل الواجب الرجوع إليه، ولا للحرية المرادة.
وبسبب نقدهم للدين وأحكامه، وتألهيهم للعقل وصلوا للإلحاد، وعجزوا عن الإجابة عن السؤال الذي أرقّ أغبياء العالم ممن يلمزون بالذكاء : من خلق الكون ؟ ولماذا خلق الله الكون؟
والتنوير هدفه هدف العلمانية وهو تنحية الدين عن الدولة أولاً، وعن الشعب ثانياً، فليس هدفهم كما يذكرون فصل الدين عن الدولة فقط، وإنما يسعون وبخطط مرسومه إلى تشويه الدين لدى الناس وإظهاره في صورة متخلفة.
وقد نجحوا في الغرب في ثورتهم الفرنسية البائسة التي كان هدفها القضاء على الملة النصرانية، فالدول الغربية تخلصت من الملة النصرانية تماما في حكمها، وتخلى الناس عن دينهم، وحصروه في الكاهن والكنسية وفي يوم واحد هو يوم الأحد .
ومن أصولهم المناداة بالحرية والتسامح، ويقصدون بالحرية التخلص من أحكام النصرانية المحرفة التي تنادي بها كنائس العصر المظلم في أوربا، والتحرر من القيم الأخلاقية، وبالتسامح حرية التدين وعدمه أو الإلحاد.
ولكن هذه الحرية في الحقيقة حرية كاذبة زائفة لأنها تحارب كل من ينتقد التنوير وتعاديه، ويظهرونه أمام الخاصة والعامة بأنه ظلامي ومتشدد ومحارب للعقل والحرية والتسامح.
وهذا التنوير بهذه الصورة مرفوض تماما عند المسلمين، سواء كانوا من العوام أوالمثقفين، فكان لا بد من استحداث مصطلح ينطلي على المثقفين بالذات، فيروجون له عند العامة، فظهر ما يسمى بالتنوير الإسلامي .
قال محمد عماره في كتابه " الإسلام بين التنوير والتزوير ص 34 : " فوجود تنوير غربي له السمات الخاصة التي أشرنا إلى أهمها لا يمنع من الحديث عن تنوير عربي إسلامي تتحدد مضامينه ومفاهيمه وفقا للمرجعية الحضارية الإسلامية المتميزة عن المرجعية الغربية"
ولكن هل ما ذكره عماره من أن التنوير الإسلامي يختلف في مضمونه عن أصول التنوير الغربي صحيح ؟
فالجواب : أبدا. بل هما وجهان لعملة واحدة .
فيقدمون العقل على النص، ويطالبون بنقد كل ما هو موروث ومنه الدين، ويطالبون بإعادة قراءة النص الديني ( الكتاب والسنة) وفق معطيات التطورات الحضارية المعاصرة، مع الابتعاد عن منهج السلف في التفسير، ويصرون على تطبيق الديمقراطية الغربية القائمة على الحرية وتقديم سيادة الأمة والشعب على سيادة الشرع، وينادون وبصراحة بفصل الدين عن الدولة، ويذمون ما يسمى بالدين السياسي، وتراهم يستعملون مصطلح ( أسلمة الدولة) ونسبته للجماعات الإسلامية السياسية المنحرفة .
إخواني القراء : هذه نبذة يسيرة عن الظلام المتضمن في الفكر التنويري غربيا كان أو إسلاميا - والإسلام منه بريء- فإذا علمنا ذلك فإن خطر أرباب هذا الفكر ومن يحملون خطاب التنوير كبير على الدين والعقيدة بل وعلى البلاد والعباد، فالواجب الحذر منهم وعدم التمكين لهم.
وفقنا الله جميها لما يحبه ويرضاه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق