صلاحُ التعليمِ أساسُ الإصلاح [ ـ ١ ـ]
::: تحقيق وتعليق وتوجيه :::
فضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد على #فركوس - حفظه الله -
=== أستاذ بكلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر ===
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقَدْ قال الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ:
«لَنْ يَصْلُحَ المُسْلِمُونَ حَتَّى يَصْلُحَ عُلَمَاؤُهُمْ(٢)؛ فَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ مِنَ الْأُمَّةِ بِمَثَابَةِ الْقَلْبِ: إِذَا صَلَحَ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَصَلَاحُ المُسْلِمِينَ إِنَّمَا هُوَ بِفِقْهِهِمُ الْإِسْلَامَ وَعَمَلِهِمْ بِهِ، وَإِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ هَذَا عَلَى يَدِ عُلَمَائِهِمْ؛ فَإِذَا كَانَ عُلَمَاؤُهُمْ أَهْلَ جُمُودٍ فِي الْعِلْمِ وَابْتِدَاعٍ فِي الْعَمَلِ(٣) فَكَذَلِكَ المُسْلِمُونَ يَكُونُونَ؛ فَإِذَا أَرَدْنَا إِصْلَاحَ المُسْلِمِينَ فَلْنُصْلِحْ عُلَمَاءَهُمْ.
وَلَنْ يَصْلُحَ الْعُلَمَاءُ إِلَّا إِذَا صَلَحَ تَعْلِيمُهُمْ، فَالتَّعْلِيمُ هُوَ الَّذِي يَطْبَعُ المُتَعَلِّمَ بِالطَّابَعِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ فِي مُسْتَقْبَلِ حَيَاتِهِ وَمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عَمَلِهِ لِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُصْلِحَ الْعُلَمَاءَ فَلْنُصْلِحِ التَّعْلِيمَ؛ وَنَعْنِي بِالتَّعْلِيمِ: التَّعْلِيمَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ المُسْلِمُ عَالِمًا مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، يَأْخُذُ عَنْهُ النَّاسُ دِينَهُمْ وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِيهِ.
وَلَنْ يَصْلُحَ هَذَا التَّعْلِيمُ إِلَّا إِذَا رَجَعْنَا بِهِ لِلتَّعْلِيمِ النَّبَوِيِّ فِي شَكْلِهِ وَمَوْضُوعِهِ، فِي مَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ، فِيمَا كَانَ يُعَلِّمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَفِي صُورَةِ تَعْلِيمِهِ؛ فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا»(٤)، فَمَاذَا كَانَ يُعَلِّمُ؟ وَكَيْفَ كَانَ يُعَلِّمُ؟
كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي جِبْرِيلَ فِي الْحَدِيثِ المَشْهُورِ: «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ»(٥)؛ وَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدِّينَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ ٱلۡبَلۡدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَيۡءٖۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٩١ وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَ﴾ [النمل: ٩١ ـ ٩٢]، وَمَا بَيَّنَهُ لَهُمْ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَسِيرَتِهِ وَسُلُوكِهِ فِي مَجَالِسِ تَعْلِيمِهِ وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ فَكَانَ النَّاسُ يَتَعَلَّمُونَ دِينَهُمْ بِمَا يَسْمَعُونَ مِنْ كَلَامِ رَبِّهِمْ، وَمَا يَتَلَقَّوْنَ مِنْ بَيَانِ نَبِيِّهِمْ وَتَنْفِيذِهِ لِمَا أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ الْبَيَانُ هُوَ سُنَّتُهُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ وَالخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَبَقِيَّةُ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ المَشْهُودِ لَهُمْ بِالخَيْرِيَّةِ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ(٦).
وَإِذَا رَجَعْتَ إِلَى «مُوَطَّإِ مَالِكٍ»(٧) سَيِّدِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ ـ فِي بَيَانِ الدِّينِ ـ قَدْ بَنَى أَمْرَهُ عَلَى الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَمَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلِ أَصْحَابِهِ(٨) الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَالُ آخِرَ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِهِ(٩)؛ وَكَذَلِكَ إِذَا رَجَعْتَ إِلَى كِتَابِ: «الْأُمِّ» لِتِلْمِيذِ مَالِكٍ: الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ(١٠)؛ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ قَدْ بَنَى فِقْهَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنَ السُّنَّةِ(١١).
وَهَكَذَا كَانَ التَّعَلُّمُ وَالتَّعْلِيمُ فِي الْقُرُونِ الْفُضْلَى، مَبْنَاهُمَا عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ(١٢) فِي «الجَامِعِ» عَنِ الضَّحَّاكِ(١٣) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُونُواْ رَبَّٰنِيِّۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ ٧٩﴾ [آل عمران]: قَالَ الضَّحَّاكُ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا»(١٤)، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ(١٥) أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ(١٦): «أَمَّا بَعْدُ، فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ وَتَفَقَّهُوا فِي الْعَرَبِيَّةِ»(١٧)؛ وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ(١٨) فِي كِتَابِ «الْإِحْكَامِ» ـ وَهُوَ يَتَحَدَّثُ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ: كَيْفَ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الدِّينَ ـ: «كَانَ أَهْلُ هَذِهِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ المَحْمُودَةِ ـ يَعْنِي: الْقُرُونَ الثَّلَاثَةَ ـ يَطْلُبُونَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَالْفِقْهَ فِي الْقُرْآنِ، وَيَرْحَلُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْبِلَادِ، فَإِنْ وَجَدُوا حَدِيثًا عَنْهُ عليه السلام عَمِلُوا بِهِ وَاعْتَقَدُوهُ»(١٩).
وَمَنْ رَاجَعَ «كِتَابَ الْعِلْمِ» مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»(٢٠) وَوَقَفَ عَلَى كِتَابِ «جَامِعِ الْعِلْمِ»(٢١) لِلْإِمَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ ـ عَصْرِيِّ ابْنِ حَزْمٍ وَبَلَدِيِّهِ وَصَدِيقِهِ(٢٢) ـ عَرَفَ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى سِيرَتِهِمْ تِلْكَ شَيْئًا كَثِيرًا.
هَذَا هُوَ التَّعْلِيمُ الدِّينِيُّ السُّنِّيُّ السَّلَفِيُّ، فَأَيْنَ مِنْهُ تَعْلِيمُنَا نَحْنُ الْيَوْمَ وَقَبْلَ الْيَوْمِ، بَلْ مُنْذُ قُرُونٍ وَقُرُونٍ؟! فَقَدْ حَصَلْنَا عَلَى شَهَادَةِ الْعَالَمِيَّةِ مِنْ جَامِعِ الزَّيْتُونَةِ(٢٣) وَنَحْنُ لَمْ نَدْرُسْ آيَةً وَاحِدَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا أَيُّ شَوْقٍ أَوْ أَدْنَى رَغْبَةٍ فِي ذَلِكَ؛ وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ لَنَا هَذَا وَنَحْنُ لَمْ نَسْمَعْ مِنْ شُيُوخِنَا يَوْمًا مَنْزِلَةَ الْقُرْآنِ مِنْ تَعَلُّمِ الدِّينِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ، وَلَا مَنْزِلَةَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ؟! هَذَا فِي جَامِعِ الزَّيْتُونَةِ، فَدَعْ عَنْكَ الْحَدِيثَ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ دُونَهُ بِعَدِيدِ المَرَاحِلِ!!
فَالْعُلَمَاءُ ـ إِلَّا قَلِيلٌ(٢٤) مِنْهُمْ ـ أَجَانِبُ أَوْ كَأَجَانِبَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنَ العِلْمِ بِهِمَا(٢٥) وَالتَّفَقُّهِ فِيهِمَا؛ وَمَنْ فَطِنَ مِنْهُمْ لِهَذَا الْفَسَادِ التَّعْلِيمِيِّ الَّذِي بَاعَدَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِالدِّينِ، وَحَمْلِهِمْ وِزْرَهُمْ وَوِزْرَ مَنْ فِي رِعَايَتِهِمْ؛ لَا يَسْتَطِيعُ ـ إِذَا كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ وَرَغْبَةٌ ـ أَنْ يَتَدَارَكَ ذَلِكَ إِلَّا فِي نَفْسِهِ؛ أَمَّا تَعْلِيمُهُ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ عَنِ المُعْتَادِ الَّذِي تَوَارَثَهُ عَنِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، رَغْمَ مَا يَعْلَمُ فِيهِ مِنْ فَسَادٍ وَإِفْسَادٍ.
وَنَحْنُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَّا تَعْلِيمَ الدِّينِ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ أَهْلِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ المَحْمُودَةِ ـ وَمِنْهُمْ إِمَامُنَا: إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ مَالِكٌ ـ فَإِنَّنَا عَقَدْنَا الْعَزْمَ عَلَى إِصْلَاحِ التَّعْلِيمِ الدِّينِيِّ فِي دُرُوسِنَا حَسَبَ مَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ طَاقَتُنَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى».
[ش: ج ١١، م ١٠، ص٤٧٨ ـ ٤٨١. رجب ١٣٥٣ﻫ ـ ١٠ أكتوبر ١٩٣٤م].
--------------------
(١) «آثار الإمام عبد الحميد بنِ باديس» إعداد: د.عمَّار طالبي (٣/ ٢١٧).
(٢) لا يُرادُ بالعلماء ـ في عُرْف الشرعِ ـ علماءُ الدنيا وظواهرِها المادِّية والطبيعية، ولا الخُبَراءُ في التكنولوجيا والجيولوجيا وأصحابُ التقنياتِ العالية في الأبحاث الفضائيَّة، ولا أهلُ الاختصاصات في الطبِّ والجراحة مِنْ أهل العرفان والدراية؛ وهذه العلومُ ـ وإِنْ كانَتْ مطلوبةَ التحصيلِ شرعًا، ومأمورًا بتحقيقها في إعداد المسلمين وتقويةِ شوكتهم ـ إلَّا أنها ليسَتْ مطلوبةً لذاتها، باستثناءِ ما كان منها وسيلةً إلى العلم الشرعيِّ الذي تُعيِّنُه النصوصُ القرآنيَّة والأحاديث النبويَّة؛ فحَمَلةُ العلم الشرعيِّ هم وَرَثَةُ الأنبياء، وَرِثوا منهم العِلمَ وانطبع على أعمالهم، وهُمْ يَدْعون الناسَ إليه، نالوا تلك المنزلةَ بالاجتهاد والصبر وكمالِ اليقين؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ ٢٤﴾ [السجدة]، وقد عبَّر عنهم الإمامُ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«إعلام الموقِّعين» (١/ ٩)] بقوله: «.. فُقَهاء الإسلام، ومَنْ دارَتِ الفُتْيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خُصُّوا باستنباط الأحكام، وعُنُوا بضبطِ قواعد الحلال والحرام».
(٣) فيه إشارةٌ إلى أَهَمِّ سِمَات المنهج السلفيِّ وأبرزِ خصائصه المتمثِّلةِ ـ في هذا المَقام ـ في جهتين:
الأولى: محاربةُ علماءِ السوء ودُعَاة الفِتَن مِنْ أهل الخرافة والبِدَعِ والأهواء، والتشديدُ في النهي عن مجالستهم أو سماعِ شُبَههم أو عرضِها؛ وعِلَّةُ محاربتهم تكمن في إنكار المُنكَر والزجرِ لهم والتأديب حتَّى يَدَعوا بِدَعَهم وضلالهم؛ ومحاصرة آرائهم ومغالطاتهم وشُبُهاتهم؛ لئلَّا تتأثَّر قلوبُ المسلمين بها؛ حمايةً لدِينهم وصيانةً لعقولهم منها، فعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «لَا تُجَالِسْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ؛ فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُمْ مُمْرِضَةٌ لِلْقُلُوبِ» [رواه الآجُرِّيُّ في «الشريعة» (٦٤)]، وعن الفُضَيْل بنِ عياضٍ ـ رحمه الله ـ قال: «صَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا تَأْمَنْهُ عَلَى دِينِكَ، وَلَا تُشَاوِرْهُ فِي أَمْرِكَ، وَلَا تَجْلِسْ إِلَيْهِ؛ فَمَنْ جَلَسَ إِلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ وَرَّثَهُ اللهُ الْعَمَى» يعني: في قلبه، [رواه اللَّالَكائيُّ في «شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة» (١/ ١٣٨)، وابنُ بطَّة في «الإبانة الكبرى» (٢/ ٤٥٩)].
الثانية: نبذُ الجمود الفكريِّ والتعصُّب المذهبيِّ، وقد تقدَّم ذِكرُ خطورةِ هاتين الجهتين والآثارِ الفاسدة المترتِّبة عليهما بما يغني عن إعادتها، [انظر الكلمة الشهرية رقم: (١٣٣) الموسومة ﺑ: «تقديمُ الشيخِ محمَّد البشير الإبراهيميِّ ـ رحمه الله ـ على «العقائد الإسلاميَّة مِنَ الآياتِ القرآنيَّة والأحاديثِ النبويَّة» للأستاذ الإمام عبدِ الحميدِ بنِ باديسَ ـ رحمه الله ـ [تحقيق وتعليق وتوجيه: الشيخ محمَّد علي فركوس] [الحلقة السابعة]» على الموقع الرسميِّ].
هذا، ويجدر التنبيهُ إلى أنَّ قولَ الشيخِ ابنِ باديس ـ رحمه الله ـ: «فَإِذَا كَانَ عُلَمَاؤُهُمْ أَهْلَ جُمُودٍ فِي العِلْمِ وَابْتِدَاعٍ فِي العَمَلِ..» لا يُفهَمُ منه اقتصارُ البدعة على الأعمال الظاهرة، بل البدعة في الدِّين شاملةٌ للمُعتقَدات والأقوال والأعمال، وقد حكى ابنُ الوزير اليمانيُّ ـ رحمه الله ـ إجماعَ السلف على تحريمها، [انظر: «إيثار الحقِّ على الخَلْق» (١٠٧)]، وقال ابنُ رجبٍ ـ رحمه الله ـ في [«جامع العلوم والحِكَم» (٢٥٢)] ما نصُّه: «كُلُّ مَنْ أَحدَث شيئًا ونَسَبه إلى الدِّين، ولم يكن له أصلٌ مِنَ الدِّين يرجع إليه؛ فهو ضلالةٌ، والدِّينُ بريءٌ منه، وسواءٌ ـ في ذلك ـ مسائلُ الاعتقادات أو الأعمالِ أو الأقوال الظاهرة والباطنة؛ وأمَّا ما وَقَع في كلام السلف مِنِ استحسانِ بعضِ البِدَع فإنما ذلك في البِدَع اللُّغَويَّة لا الشرعيَّة».
(٤) ليس في «صحيح مسلم» روايةٌ بهذا اللفظ، وإنما رواها به الدارميُّ في «سننه» (١/ ٩٩)، وابنُ ماجه في «المقدِّمة» (١/ ٨٣) بابُ فضل العلماء والحثِّ على طلب العلم، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما. والحديثُ ضعَّف إسنادَه العراقيُّ في «تخريج الإحياء» (١/ ٧٧)، والألبانيُّ في «السلسلة الضعيفة» (١/ ٢٢) رقم: (١١)؛ أمَّا لفظُ مسلمٍ في «الطلاق» (١٠/ ٨١) بابُ بيانِ أنَّ تخييرَه امرأتَه لا يكون طلاقًا إلَّا بالنيَّة؛ فقَدْ أخرجه مِنْ طريقِ أبي الزُّبير عن جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما: «...إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا»، وأخرجه بنحوه مِنْ نفس الطريق أحمدُ في «مسنده» (٣/ ٣٢٨)، والبيهقيُّ في «سُنَنه الكبرى» (٧/ ٣٨).
(٥) أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» (١/ ١١٤) بابُ سؤالِ جبريلَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلمِ الساعة، وفي «التفسير» (٨/ ٥١٣) باب: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ﴾ [لقمان: ٣٤]، ومسلمٌ في «الإيمان» (١/ ١٦٤ ـ ١٦٥) باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظُ مسلمٍ: «هَذَا جِبْرِيلُ أَرَادَ أَنْ تَعَلَّمُوا إِذْ لَمْ تَسْأَلُوا»، والحديث وَرَد مِنْ طريقِ عمر بنِ الخطَّاب وابنِ عبَّاسٍ وأبي ذرٍّ رضي الله عنهم، [انظر: «إرواء الغليل» للألباني (١/ ٣٢ ـ ٣٤)].
(٦) فهؤلاء وأتباعُهم هُم أئمَّةُ السُّنَّة وأهلُ الحديث والآثار، وهُم صفوةُ الأمَّة وخِيرتُها؛ لِمَا أَظهرُوه مِنْ قدرةٍ على التمييز بين صحيح السُّنَّة وسقيمِها، ولِمَا عُرِفوا به مِنْ شدَّةِ اتِّباعهم للسُّنَّة وحِرصِهم على تطبيقها؛ فكانوا الحجَّةَ على الناسِ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ في مَعْرِضِ تعيين الفِرْقة الناجية في [«مجموع الفتاوى» (٣/ ٣٤٧)]: «وبهذا يتبيَّن أنَّ أَحقَّ الناسِ بأَنْ تكون هي الفِرْقةَ الناجية: أهلُ الحديث والسُّنَّة، الذين ليس لهم متبوعٌ يتعصَّبون له إلَّا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهُم أعلمُ الناسِ بأقواله وأحواله، وأعظمُهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمِها، وأئمَّتُهم فُقَهاءُ فيها وأهلُ معرفةٍ بمعانيها، واتِّباعًا لها: تصديقًا وعملًا وحُبًّا وموالاةً لمَنْ والاها ومعاداةً لمَنْ عاداها، الذين يردُّون [وفي الأصل: يروون] المقالاتِ المُجْمَلةَ إلى ما جاء به مِنَ الكتاب والحكمة؛ فلا يَنْصِبون مقالةً ويجعلونها مِنْ أصولِ دِينهم وجُمَلِ كلامهم إِنْ لم تكن ثابتةً فيما جاء به الرسولُ، بل يجعلون ما بُعِث به الرسولُ مِنَ الكتاب والحكمةِ هو الأصلَ الذي يعتقدونه ويعتمدونه».
(٧) «المُوطَّأُ»: هو كتابُ حديثٍ وفِقهٍ اتَّفَق المسلمون على اعتماده، وهو معدودٌ مِنْ ضِمنِ الكُتُب الخمسة، و«الموطَّأُ» ـ الذي يتقدَّمُها وضعًا ولا يتأخَّرُ عنها رتبةً ـ يضمُّ إلى جانب الحديثِ أقوالَ الصحابة والتابعين وفتاواهم، صنَّفه مالكٌ ـ رحمه الله ـ على أبواب الفقه، وقِيلَ: إنَّ مُدَّةَ جمعِه وتبويبِه استغرقَتْ قُرابةَ الأربعين عامًا، وقد روى أبو الحسن بنُ فِهرٍ عن بعض المشايخ أنَّ مالكًا قال: «عرَضْتُ كتابي هذا على سبعين فقيهًا مِنْ فقهاء المدينة، فكُلُّهم واطَأَني عليه؛ فسمَّيْتُه: الموطَّأَ»، قال ابنُ فِهرٍ: «لم يسبق مالكًا أحَدٌ إلى هذه التسمية؛ فإنَّ مَنْ ألَّف في زمانه: بعضُهم سمَّى بالجامع، وبعضُهم سمَّى بالمصنَّف، وبعضُهم بالمؤلَّف؛ ولفظةُ «الموطَّأ» بمعنى: المُمهَّد المنقَّح»؛ قال السيوطيُّ ـ رحمه الله ـ في [«تدريب الراوي» (١/ ٨٣)]: «صرَّح الخطيبُ وغيرُه بأنَّ «الموطَّأ» مقدَّمٌ على كُلِّ كتابٍ مِنَ الجوامع والمسانيد، فعلى هذا هو بعد «صحيح الحاكم»، وهو رواياتٌ كثيرةٌ، وأكبرُها روايةُ القعنبيِّ» [انظر: «تقريب التهذيب» لابن حجر (٢/ ٢٢٣)، «تنوير الحوالك» للسيوطي (١/ ٧)، «شرح الزرقاني على الموطَّإ» (١/ ٧)، «الفضل المُبين» للقاسمي (٢٣٢)، «تاريخ التراث العربي» لسزكين (٢/ ١٢٠)].
وصاحبُ هذا «الموطَّإِ» هو أبو عبد الله مالكُ بنُ أنس بنِ مالك بنِ أبي عامرٍ الأَصْبَحيُّ الحِمْيَريُّ المدنيُّ، إمامُ دارِ الهجرة، وأحَدُ الأئمَّة الأربعةِ عند أهل السُّنَّة، وإليه تُنْسَب المالكيَّة، وهو أحَدُ أئمَّةِ الحديث وأَدَقُّهم في عصره، مَناقِبُه كثيرةٌ ومتعدِّدةٌ، له مُصنَّفاتٌ أشهرُها: ما تقدَّم ذِكرُه، ورسالتُه في القَدَر والردِّ على القَدَرية، وكتابُه في النجوم ومنازلِ القمر، ورسالةٌ في الأقضية، وأخرى إلى الليث بنِ سعدٍ في إجماع أهل المدينة. تُوُفِّيَ ـ رحمه الله ـ سنةَ: (١٧٩ﻫ).
انظر مصادِرَ ترجمته في: «مفتاح الوصول» للتلمساني ـ بتحقيقي ـ (٣٣٨)، ومؤلَّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٢٧١).
(٨) هذه مِنْ أصول المذهب المالكيِّ، وقد نصَّ القرافيُّ ـ رحمه الله ـ في [«تنقيح الفصول» (١٨)] على أنَّ أدلَّةَ مالكٍ ـ رحمه الله ـ هي: «القرآن، والسُّنَّة، وإجماعُ أهلِ المدينة، والقياسُ، وقولُ الصحابيِّ، والمصلحةُ المُرْسَلة، والعُرْف والعادة، وسَدُّ الذرائع، والاستصحاب، والاستحسان»، وحصَرَها الشاطبيُّ ـ رحمه الله ـ في [«الموافقات» (٣/ ٣٤٥)] في أربعةٍ: «الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والرأي»، فهو يعتبر عملَ أهلِ المدينة مِنْ قبيل السُّنَّة، وأمَّا الأدلَّة الأخرى فإنه يَشْمَلُها الرأيُ.
(٩) وجملةُ أنَّ الصحابة كانوا: «يَتَّبِعُونَ الأَحْدَثَ فَالأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ» رواها مالكٌ في «الموطَّإ» (١/ ٢٧٥)، ومسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٣١) بابُ جوازِ الصومِ والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر في غيرِ معصيةٍ، مِنْ قولِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وفيه قصَّةٌ؛ لكنَّ الذي جَزَم به البخاريُّ في «صحيحه» (٨/ ٣) أنها زيادةٌ مُدْرَجةٌ مِنْ قول الزُّهريِّ، قال الحافظ ـ رحمه الله ـ في [«الفتح» (٤/ ١٨١)]: «وظاهرُه أنَّ الزُّهريَّ ذَهَب إلى أنَّ الصوم في السفر منسوخٌ، ولم يُوافَق على ذلك»، وقد تَرجمَ ابنُ خزيمة ـ رحمه الله ـ بابًا؛ بيانًا للإدراج بقوله: «بابُ ذِكْر البيان على أنَّ هذه الكلمة: «وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالآخِرِ» ليس مِنْ قولِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما» [«صحيح ابن خزيمة» (٣/ ٢٦٢)].
(١٠) كتابُ «الأمِّ»: هو جمعُ عددٍ مِنْ دراسات الشافعيِّ ـ رحمه الله ـ الفقهيَّة ـ أقواله وفتاواه واستنباطاته ـ مؤلَّفةً في كتابٍ واحدٍ، قام بتحريرِ بعضِ كُتُبه وجمعِها ـ على الأصحِّ ـ تلميذُه الربيع بنُ سليمان ـ رحمه الله ـ [ت: ٢٧٠ﻫ]، وهو مَنْ سمَّاه بهذا الاسْمِ بعد أَنْ سَمِع منه هذه الكُتُبَ، أمَّا ما فاتَهُ سماعُه أو ما وَجَده بخطِّ الشافعيِّ ولم يسمعه فقَدْ بيَّنَه بما لا يَدَعُ مَجالًا للشكِّ والرِّيبة.
وأمَّا ما ادَّعاهُ الدكتور زكي مبارك في «إصلاح أشنعِ خطإٍ في تاريخ التشريع» مِنْ أنَّ كتابَ «الأمِّ» لم يُؤلِّفْه الشافعيُّ، وإنما ألَّفه يوسف بنُ يحيى البُوَيْطيُّ ـ رحمه الله ـ [ت: ٢٣١ﻫ]، وتصرَّف فيه الربيع بنُ سليمان ووَصَف نَفْسَه بأنه جامعُ هذه الرسائل، بناءً على ما ذَكَره أبو طالبٍ المكِّيُّ ـ رحمه الله ـ [ت: ٣٨٦ﻫ] في «قوت القلوب»، ونَقَله عنه أبو حامدٍ الغزَّاليُّ ـ رحمه الله ـ [ت: ٥٠٥ﻫ] في «إحياءِ علوم الدِّين»؛ فإنَّ هذه الدعوى يصعب تصديقُها، وخاصَّةً أنَّ كُتُبَ الشافعيِّ ـ رحمه الله ـ كانت معروفةً مشتهرةً، وأنَّ «الربيع المراديَّ مِنْ ثِقَاتِ الرُّواة عند المُحدِّثين، وهذه الروايةُ فيها تهمةٌ له بالتلبيس والكذب، وهو أرفعُ قَدْرًا وأوثقُ أمانةً مِنْ أَنْ نظنَّ به أنه يختلس كتابًا ألَّفه البُوَيْطيُّ ـ رحمه الله ـ ثمَّ ينسبه لنفسه، ثمَّ يكذب على الشافعيِّ ـ رحمه الله ـ في كُلِّ ما يروي أنه مِنْ تأليف الشافعيِّ، بل لو صحَّ عنه بعضُ هذا كان مِنْ أكذبِ الوضَّاعين وأَجْرَئِهم على الفرية!! وحاشَ لله أَنْ يكون الربيعُ إلَّا ثِقَةً أمينًا؛ وقد ردَّ مِثلَ هذه الروايةِ أبو الحسين الرازيُّ الحافظ: محمَّد بنُ عبد الله بنِ جعفرٍ ـ رحمه الله ـ المتوفَّى سنة: (٣٤٧ﻫ)، وهو والِدُ الحافظِ تمَّامٍ الرازيِّ ـ رحمه الله ـ، فقال: «هذا لا يُقبَلُ، بل البُوَيْطيُّ ـ رحمه الله ـ كان يقول: «الربيع أَثْبَتُ في الشافعيِّ منِّي»، وقد سَمِع أبو زُرعةَ الرازيُّ ـ رحمه الله ـ كُتُبَ الشافعيِّ ـ رحمه الله ـ كُلَّها مِنَ الربيع قبل موت البُوَيْطيِّ بأربعِ سنين»» [انظر: «تهذيب التهذيب» لابن حجر (٣/ ٢٤٦)، وتحقيق أحمد شاكر على «الرسالة» للشافعي (٩ ـ ١٠)].
هذا، ويُنسَبُ مضمونُ الكتابِ إلى أبي عبد الله محمَّد بنِ إدريس بنِ العبَّاس القُرَشيِّ المُطَّلِبيِّ الشافعيِّ المكِّيِّ، الإمام المجتهد المُحدِّث الفقيه، صاحبِ المذهبِ وتلميذِ مالكٍ ـ رحمه الله ـ؛ مَناقِبُه عديدةٌ وله مُصنَّفاتٌ منها: «الرسالة» في أصول الفقه، و«الأمُّ» في الفقه ـ كما تقدَّم ـ و«أحكام القرآن»، و«اختلاف الحديث». تُوُفِّيَ سنةَ: (٢٠٤ﻫ).
انظر مصادِرَ ترجمته في: «مفتاح الوصول» للتلمساني ـ بتحقيقي ـ (٤١٨)، ومؤلَّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٣٤١).
(١١) قال الشافعيُّ ـ رحمه الله ـ كما في [«الأمِّ» (٧/ ٢٧٣)]: «لم أسمع أحَدًا نَسَبه الناسُ أو نَسَب نَفْسَه إلى علمٍ يُخالِفُ في أنَّ فَرْضَ الله عزَّ وجلَّ: اتِّباعُ أمرِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والتسليمُ لحكمِه، بأنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لم يجعل لأحَدٍ بعده إلَّا اتِّباعَه، وأنه لا يَلْزَم قولٌ بكُلِّ حالٍ إلَّا بكتاب الله أو سُنَّةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّ ما سِوَاهما تَبَعٌ لهما»، وقال ـ أيضًا ـ في [«الرسالة» (٣٩)]: «ليس لأحَدٍ أبدًا أَنْ يقول في شيءٍ: «حَلَّ» ولا «حَرُم» إلَّا مِنْ جهة العلم؛ وجِهةُ العلم: الخبرُ في الكتاب أو السُّنَّة، أو الإجماعُ أو القياس».
(١٢) هو أبو عُمَرَ يوسفُ بنُ عبد الله بنِ محمَّد بنِ عبد البرِّ بنِ عاصمٍ النَّمَريُّ الأندلسيُّ، شيخُ عُلَماءِ الأندلس، وكبيرُ مُحدِّثيها، وأحفظُ مَنْ كان فيها في وقته، له تآليفُ نافعةٌ منها: «التمهيد لِمَا في الموطَّإ مِنَ المَعاني والأسانيد» و«الاستيعاب في معرفة الأصحاب». تُوُفِّيَ بشاطبةَ سنةَ: (٤٦٣ﻫ).
انظر مصادِرَ ترجمته في: «مفتاح الوصول» للتلمساني ـ بتحقيقي ـ (١٥٠)، ومؤلَّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٤٠٥).
(١٣) هو أبو محمَّدٍ ـ وقِيلَ: أبو القاسم ـ الضَّحَّاك بنُ مُزاحِمٍ الهلاليُّ الخُرَاسانيُّ المُفسِّر، وهو تابعيٌّ جليلٌ، قال عنه الذهبيُّ: «كان مِنْ أوعية العلم، وليس بالمُجوِّد لحديثه، وهو صدوقٌ في نفسه»، روى عنه تفسيرَه عُبَيْد بنُ سليمان. تُوُفِّي ـ رحمه الله ـ سنةَ: (١٠٢ﻫ) على الأصحِّ.
انظر ترجمته في: «سِيَر أعلام النُّبَلاء» (٤/ ٥٩٨) و«ميزان الاعتدال» (٢/ ٣٢٥) و«دُوَل الإسلام» (١/ ٧٢) كُلُّها للذهبي، «مرآة الجِنان» لليافعي (١/ ٢١٣)، «البداية والنهاية» لابن كثير (٩/ ٢٢٣)، «تهذيب التهذيب» لابن حجر (٤/ ٤٥٣)، «طبقات المُفسِّرين» للداودي (١/ ٢٢٢)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ١٢٤).
(١٤) «جامع بيان العلم وفضلِه» لابنِ عبد البرِّ (٢/ ١٦٧)، في باب «رُتَب الطلب والنصيحة في المذهب» (٢/ ١٦٦ ـ ١٧٥).
(١٥) هو الصحابيُّ أبو حفصٍ عمرُ بنُ الخطَّاب بنِ نُفَيْلِ بنِ عبد العُزَّى القُرَشيُّ العَدَويُّ رضي الله عنه المَدَنيُّ، الفاروقُ، الخليفةُ الثاني لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كنَّاهُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أبا حفصٍ، وله الفضلُ على الأُمَّةِ سياسةً وفتحًا وعدلًا واستقامةً، وهو الصادقُ المُلْهَمُ، له مُوافَقاتٌ مع ربِّه في بضعةَ عَشَرَ موضعًا، وهو أوَّلُ قاضٍ في الإسلام: ولَّاهُ أبو بكرٍ، وله مَناقِبُ وفضائلُ كثيرةٌ، وَلِيَ الخلافةَ عَشْرَ سنين ونصفًا. تُوُفِّيَ سنةَ: (٢٣ﻫ) وهو ابنُ ٦٣ سنةً، ودُفِنَ مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي بكرٍ في بيتِ عائشة رضي الله عنهم.
انظر مصادِرَ ترجمته في: «مفتاح الوصول» للتلمساني ـ بتحقيقي ـ (٦٤٣)، ومؤلَّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٢٥٩).
(١٦) هو الصحابيُّ أبو موسى عبدُ اللهِ بنُ قيسِ بنِ سليمٍ الأشعريُّ رضي الله عنه الفقيه المُقْرِئ، مِنَ الوُلَاةِ الفاتحين وأهلِ السابقة في الإسلام، كان حَسَنَ الصوتِ بالقرآن الكريم، استعمله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع مُعاذٍ رضي الله عنه على اليمن، ثمَّ وَلِيَ لعُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه الكُوفَةَ والبصرةَ، وهو أَحَدُ الحَكَمَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضِيَ بهما عليٌّ ومُعاوِيةُ رضي الله عنهما بعد حربِ صِفِّينَ. تُوُفِّيَ سنةَ: (٤٤ﻫ).
انظر مصادِرَ ترجمته في: «مفتاح الوصول للتلمساني» للتلمساني ـ بتحقيقي ـ (٣٩٣)، ومؤلَّفي: «إمتاع الجليس» (٩٥).
(١٧) أخرجه ابنُ عبد البرِّ في «جامعه» (٢/ ١٦٨) مِنْ حديثِ عمر بنِ زيدٍ ـ رحمه الله ـ.
(١٨) هو أبو محمَّدٍ عليُّ بنُ أحمد بنِ سعيد بنِ حزم بنِ غالبٍ الفارسيُّ الأصل، الأندلسيُّ القرطبيُّ، تَفقَّه على المذهب الشافعيِّ، وانتقل إلى المذهب الظاهريِّ، فكان قمَّةً في علوم الإسلام، يُجيدُ النقلَ ويُحْسِن النظمَ والنثر، وكان فقيهًا مُفسِّرًا مُحدِّثًا أصوليًّا، وطبيبًا أديبًا مؤرِّخًا، عاملًا بعلمه زاهدًا في الدنيا، وتَرَك مؤلَّفاتٍ قيِّمةً منها: «الإحكام في أصول الأحكام»، و«المُحلَّى في شرح المُجلَّى بالحُجَج والآثار»، و«الفصل في المِلَل والنِّحَل»، و«جمهرة أنساب العرب». تُوُفِّيَ سنةَ: (٤٥٦ﻫ).
انظر مصادِرَ ترجمته في: «مفتاح الوصول» للتلمساني ـ بتحقيقي ـ (٦٧٨)، ومؤلَّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٢٤٣).
(١٩) «الإحكام» لابن حزم (٦/ ١١١٣).
(٢٠) انظر: «كتاب العلم» مِنْ «صحيح البخاري» (١/ ١٤٠ ـ ٢٣٢) رقم: (٥٩ ـ ١٣٤).
(٢١) وهو كتابٌ مطبوعٌ ومُتداوَلٌ تحت عنوانِ: «جامع بيان العلم وفضلِه، وما ينبغي مِنْ روايته وحملِه»، وطُبِع الطبعةَ الأولى مع تصحيحه وتقييدِ حواشيه تحت إشرافِ إدارة الطباعة المُنيريَّة، دار الكُتُب العلمية، بيروت، ثمَّ طُبِع سنةَ: (١٣٩٨ﻫ ـ ١٩٧٨م).
(٢٢) وقد ذَكَر ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ ابنَ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ في [«جمهرة أنساب العرب» (٣٠٢)] بقوله: «الفقيه الأندلسيُّ أبو عُمَرَ يوسفُ بنُ عبد الله بنِ محمَّد بنِ عبد البرِّ بنِ عاصمٍ»، وقال ـ أيضًا ـ عن كتابِه «التمهيد»: «لا أَعلمُ في الكلام على فقهِ الحديث مِثْلَه، فكيف أحسن منه؟!» [انظر: «الصِّلَة» لابن بشكوال (٢/ ٦٧٨)، «بُغية المُلتمِس» للضبِّي (٤٩٠)]؛ قال الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ في [«سِيَر أعلام النُّبَلاء» (١٨/ ١٦٠)]: «وقِيلَ: إنَّ أبا عُمرَ كان ينبسط إلى أبي محمَّد بنِ حزمٍ ويُؤانِسُه، وعنه أخَذ ابنُ حزمٍ فنَّ الحديث».
(٢٣) إنَّ جامِعَ الزيتونة يتبوَّأ منزلةً خاصَّةً بالنظر لأهمِّيَّته الدِّينيَّة والعلميَّة في تاريخِ تونس ـ حَرَسها اللهُ مِنْ كُلِّ مكروهٍ وسوءٍ ـ وكان مَنارةً للعلم والتعليم على مرِّ الزمن يُرتحَلُ إليه مِنْ مختلفِ أنحاء المغرب العربيِّ وغيرِه طلبًا للعلم والاستزادةِ منه، وقد اشتهر جامعُ الزيتونةِ المعمورُ في عهد الحفصيِّين بالفقيه ابنِ عرفة التونسيِّ وابنِ خلدون المؤرِّخِ والمُبتكِر لعلمِ الاجتماع، وغيرِهما رحمهم الله، وقد ذَكَر الوزيرُ السراج ـ رحمه الله ـ في [«الحُلَل السندسيَّة في الأخبار التونسيَّة» (١/ ٥٥١ ـ ٨٢١)] جملةً مِنْ أئمَّةِ جامع الزيتونة ومُدرِّسِيه مِنَ العلماء والمُصلِحين.
هذا، وبغضِّ النظر عن عمارةِ بنيان الجوامع والمساجد، فإنه لا يخفى أنَّ العبرة فيها بتحقيقِ عمارة الإيمان، القائمةِ على العلم الصحيحِ النافع، والاعتقادِ السليم، والمعرفةِ الحقَّة، والقِيَمِ الإسلاميَّة السمحة.
(٢٤) كذا، والصواب: «قليلًا» بالنصب لأنَّ الاستثناء تامٌّ مُوجَبٌ.
(٢٥) وفي الأصل: «فهمًا»، وهو خطأٌ مطبعيٌّ، والصوابُ ما أَثبَتُّه.
=====================
الجزائر في: ٢٢ رمضان ١٤٢٦ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٥ أكتـوبر ٢٠٠٥م
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقَدْ قال الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ:
«قَدْ ذَكَرْنَا فِي المَقَالِ السَّابِقِ مَا كَانَ عَلَيْهِ التَّعْلِيمُ الدِّينِيُّ فِي عَهْدِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ بِالتَّفَقُّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَذَكَرْنَا الْحَالَةَ الَّتِي انْتَهَى إِلَيْهَا فِي عَصْرِنَا مِنْ هَجْرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْفُرُوعِ الْعِلْمِيَّةِ(٢) المُنْتَشِرَةِ دُونَ اسْتِدْلَالٍ وَلَا تَعْلِيلٍ(٣)، وَاسْتَشْهَدْنَا عَلَى ذَلِكَ بِحَالَتِنَا ـ نَحْنُ أَنْفُسِنَا ـ لَمَّا أَخَذْنَا شَهَادَةَ الْعَالَمِيَّةِ مِنْ جَامِعِ الزَّيْتُونَةِ ـ عَمَرَهُ اللهُ بِدَوَامِ ذِكْرِهِ ـ وَنُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ ـ الْيَوْمَ ـ أَنَّ هَذَا الْإِعْرَاضَ عَنْ رَبْطِ الْفُرُوعِ بِأُصُولِهَا وَمَعْرِفَةِ مَآخِذِهَا هُوَ دَاءٌ قَدِيمٌ فِي هَذَا المَغْرِبِ مِنْ أَقْصَاهُ إِلَى أَدْنَاهُ(٤)، بَلْ كَانَ دَاءً عُضَالًا فِيمَا هُوَ أَرْقَى مِنَ المَغَارِبِ الثَّلَاثِ وَهُوَ الْأَنْدَلُسُ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ ـ فِيمَا يَلِي ـ كَلَامَ إِمَامَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَنْدَلُسِ المُتَّبِعِينَ لِمَالِكٍ ـ رحمه الله ـ.
قَالَ الإِمَامُ [أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ المُتَوَفَّى سَنَةَ: (٤٦٣)](٥) فِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ»: «وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ إِلَّا لِتَفَهُّمِ وَجْهِ الصَّوَابِ فَيُصَار إِلَيْهِ وَيُعْرَف أُصُولُ الْقَوْلِ وَعِلَّتُهُ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ أَمْثِلَتُهُ وَنَظَائِرُهُ؛ وَعَلَى هَذَا النَّاسُ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَّا عِنْدَنَا ـ كَمَا شَاءَ اللهُ رَبُّنَا ـ وَعِنْدَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَنَا مِنْ أَهْلِ المَغْرِبِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَ عِلَّةً وَلَا يَعْرِفُونَ لِلْقَوْلِ وَجْهًا، وَحَسْبُ أَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ: «فِيهَا رِوَايَةٌ لِفُلَانٍ وَرِوَايَةٌ لِفُلَانٍ»، وَمَنْ خَالَفَ عِنْدَهُمُ الرِّوَايَةَ الَّتِي لَا يَقِفُ عَلَى مَعْنَاهَا وَأَصْلِهَا وَصِحَّةِ وَجْهِهَا فَكَأَنَّهُ خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ وَثَابِت السُّنَّةِ، وَيُجِيزُونَ حَمْلَ الرِّوَايَاتِ المُتَضَادَّةِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَذَلِكَ خِلَافُ أَصْلِ مَالِكٍ؛ وَكَمْ وَكَمْ لَهُمْ مِنْ خِلَافٍ فِي أُصُولِ مَذْهَبِهِ مِمَّا لَوْ ذَكَرْنَاهُ لَطَالَ الكِتَابُ بِذِكْرِهِ!! وَلِتَقْصِيرِهِمْ فِي(٦) عِلْمِ أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ صَارَ أَحَدُهُمْ إِذَا لَقِيَ مُخَالِفًا مِمَّنْ يَقُولُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ(٧) أَوِ الشَّافِعِيِّ أَوْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ(٨) أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَخَالَفَهُ فِي أَصْلِ قَوْلِهِ؛ بَقِيَ مُتَحَيِّرًا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ صَاحِبِهِ فَقَالَ: «هَكَذَا قَالَ فُلَانٌ، وَهَكَذَا روينا»، وَلَجَأَ إِلَى أَنْ يَذْكُرَ فَضْلَ مَالِكٍ وَمَنْزِلَتَهُ، فَإِنْ عَارَضَهُ الْآخَرُ بِذِكْرِ فَضْلِ إِمَامِهِ ـ أَيْضًا ـ صَارَ فِي المَثَلِ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ:
شَكَوْنَا إِلَيْهِمْ خَرَابَ الْعِرَاقْ
فَعَابُوا عَلَيْنَا شُحُومَ الْبَقَرْ
فَكَانُوا كَمَا قِيلَ فِيمَا مَضَى:
أُرِيهَا السُّهَا وَتُرِينِي الْقَمَرْ
وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ يَقُولُ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ(٩):
عَذِيرِيَ مِنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ ـ كُلَّمَا
طَلَبْتُ دَلِيلًا ـ: هَكَذَا قَالَ مَالِكُ
فَإِنْ عُدْتُ قَالُوا: هَكَذَا قَالَ أَشْهَبُ
وَقَدْ كَانَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ المَسَالِكُ(١٠)
فَإِنْ زِدْتُ قَالُوا: قَالَ سَحْنُونُ مِثْلَهُ
وَمَنْ لَمْ يَقُلْ مَا قَالَهُ فَهْوَ آفِكُ
فَإِنْ قُلْتُ: «قَالَ اللهُ» ضَجُّوا وَأَكْثَرُوا
وَقَالُوا جَمِيعًا: أَنْتَ قِرْنٌ مُمَاحِكُ
وَإِنْ قُلْتُ: «قَدْ قَالَ الرَّسُولُ» فَقَوْلُهُمْ:
أَتَتْ مَالِكًا فِي تَرْكِ ذَاكَ المَسَالِكُ(١١)»(١٢)
فَعَابُوا عَلَيْنَا شُحُومَ الْبَقَرْ
فَكَانُوا كَمَا قِيلَ فِيمَا مَضَى:
أُرِيهَا السُّهَا وَتُرِينِي الْقَمَرْ
وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ يَقُولُ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ(٩):
عَذِيرِيَ مِنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ ـ كُلَّمَا
طَلَبْتُ دَلِيلًا ـ: هَكَذَا قَالَ مَالِكُ
فَإِنْ عُدْتُ قَالُوا: هَكَذَا قَالَ أَشْهَبُ
وَقَدْ كَانَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ المَسَالِكُ(١٠)
فَإِنْ زِدْتُ قَالُوا: قَالَ سَحْنُونُ مِثْلَهُ
وَمَنْ لَمْ يَقُلْ مَا قَالَهُ فَهْوَ آفِكُ
فَإِنْ قُلْتُ: «قَالَ اللهُ» ضَجُّوا وَأَكْثَرُوا
وَقَالُوا جَمِيعًا: أَنْتَ قِرْنٌ مُمَاحِكُ
وَإِنْ قُلْتُ: «قَدْ قَالَ الرَّسُولُ» فَقَوْلُهُمْ:
أَتَتْ مَالِكًا فِي تَرْكِ ذَاكَ المَسَالِكُ(١١)»(١٢)
هَذَا إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الإِسْلَامِ الْعِظَامِ المُجْمَعِ عَلَى إِمَامَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ، وَمِنْ أَعْظَمِ المُتَّبِعِينَ لِمَالِكٍ الْآخِذِينَ بِمَذْهَبِهِ، وَهَا هُوَ يَشْكُو مُرَّ الشَّكْوَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَلَدِهِ الْأَنْدَلُسِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ(١٣)، وَيَنْعِي عَلَيْهِمْ مَا انْفَرَدُوا بِهِ ـ هُمْ وَأَهْلُ المَغْرِبِ ـ مِنَ الْجُمُودِ وَالتَّقْلِيدِ، وَحَمْلِهِمْ لِلرِّوَايَاتِ المُخْتَلِفَةِ دُونَ مَعْرِفَةِ وُجُوهِهَا، وَمُخَالَفَتِهِمْ لِأَصْلِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ، وَعُدُولِهِمْ عَنِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ المَأْمُورِ بِهِمَا ـ كِتَابًا وَسُنَّةً ـ المَعْمُولِ بِهِمَا عِنْدَ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ، إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِفَضْلِ الْقَائِلِ وَعِلْمِهِ؛ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ المَفْضُولُ وَيُخْطِئُ الْأَفْضَلُ، وَرَحِمَ اللهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: «امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ»(١٤)؛ وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَبْيَاتِ الْقَاضِي مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيِّ المَوْلُودِ سَنَةَ: (٢٦٥) المُتَوَفَّى سَنَةَ: (٣٥٥) لِتَبْيِينِ قِدَمِ هَذَا الدَّاءِ فِي الْأَنْدَلُسِ، وَشَكْوَى الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ مِنْهُ وَإِنْكَارِهِمْ عَلَى أَهْلِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْأَنْدَلُسِيُّ(١٥) المُتَوَفَّى سَنَةَ: (٥٤٣) فِي «الْعَوَاصِمِ»(١٦) ـ وَهُوَ يَتَحَدَّثُ عَنْ فُقَهَاءِ عَصْرِهِ ـ: «ثُمَّ حَدَثَتْ حَوَادِثُ لَمْ يَلْقَوْهَا فِي مَنْصُوصَاتِ المَالِكِيَّةِ، فَنَظَرُوا فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَتَاهُوا، وَجَعَلَ الْخَلَفُ مِنْهُمْ يَتْبَعُ ـ فِي ذَلِكَ ـ السَّلَفَ، حَتَّى آلَ المَئَالُ أَنْ لَا يُنْظَرَ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَكُبَرَاءِ أَصْحَابِهِ، وَيُقَالَ: قَدْ قَالَ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ أَهْلُ قُرْطُبَةَ(١٧) وَأَهْلُ طَلَمَنْكَةَ(١٨) وَأَهْلُ طَلَبِيرَةَ(١٩) وَأَهْلُ طُلَيْطَلَةَ(٢٠)، فَانْتَقَلُوا مِنَ المَدِينَةِ وَفُقَهَائِهَا(٢١) إِلَى طَلَبِيرَةَ وَطَرِيقِهَا»(٢٢).
فَهَذَا الْإِمَامُ الْعَظِيمُ قَدْ عَابَ عَلَيْهِمْ نَظَرَهُمْ فِي الْحَوَادِثِ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ لِأَنَّ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْفُرُوعِ المَقْطُوعَةِ عَنِ الْأُصُولِ لَا يُسَمَّى عِلْمًا؛ وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمُ الْأُصُولُ تَاهُوا فِي الْفُرُوعِ المُنْتَشِرَةِ؛ وَمُحَالٌ أَنْ يَضْبِطَ الْفُرُوعَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أُصُولَهَا؛ وَذَكَرَ مَا أَدَّاهُمْ إِلَيْهِ إِهْمَالُ النَّظَرِ مِنَ الِانْقِطَاعِ عَنْ أَقْوَالِ مَالِكٍ نَفْسِهِ وَأَمْثَالِهِ إِلَى أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْفُرُوعِيِّينَ التَّائِهِينَ النَّاظِرِينَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
فَإِذَا كَانَ الْحَالُ هَكَذَا مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ، وَقَدْ مَضَتْ عَلَيْهِ الْقُرُونُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّ قَلْعَهُ عَسِيرٌ، وَالرُّجُوعَ بِالتَّعْلِيمِ إِلَى التَّفَقُّهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَرَبْطِ الْفُرُوعِ بِالمَآخِذِ وَالْأَدِلَّةِ أَعْسَرُ وَأَعْسَرُ؛ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُنَا مِنَ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ بِصِدْقِ الرَّجَاءِ وَقُوَّةِ الْأَمَلِ، وَسَنُنَفِّذُهُ فِي دُرُوسِنَا ـ هَذَا الْعَامَ ـ(٢٣) وَاللهُ المُسْتَعَانُ».
[ش: ج١٢، م ١٠، ص ٥١٨ ـ ٥٢١. غرَّة شعبان ١٣٥٣ﻫ ـ ٩ نوفمبر ١٩٣٤م].
====================
(١) «آثار الإمام عبد الحميد بنِ باديس» (٣/ ٢٢٠).
(١) «آثار الإمام عبد الحميد بنِ باديس» (٣/ ٢٢٠).
(٢) كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب: «العمليَّة».
(٣) وكان مِنْ أثر الاقتصار على الفروع الفقهيَّة المُنتشِرة دون استدلالٍ ولا تعليلٍ أَنْ وَقَف الفقهُ المذهبيُّ ـ المُناهِضُ للفقه الاجتهاديِّ ـ عاجزًا عن مُسايَرة الزمن، وعائقًا عن اللحوقِ بنهضة الأُمَم وتلبيةِ حاجات الناس؛ إذ ترتَّب على مسائلِه التعقيدُ والبعدُ عن الوقوف على أحكامه؛ ممَّا أدَّى إلى العزوف عن دراسته لتخلُّفِه عن مُسايَرةِ التطوُّرات المُتلاحِقة؛ فتَوجَّه الناسُ إلى النُّظُم الوضعيَّة لسَدِّ حاجاتهم، وخاصَّةً بعد سقوط غالِب العالَمِ الإسلاميِّ تحت سيطرة المُحتلِّ المُستدمِر، وأصبح الفقهُ المذهبيُّ ـ الذي سادَ مئاتِ السنين ـ بمَعْزِلٍ عن حياة المسلم.
وترجع أَهَمُّ أسبابِ تأخُّرِ الفقه إلى:
● إصابة الأمَّة بالضعف لتسلُّطِ أعداء المسلمين على الحكم نتيجةَ التعصُّب والتفرُّق، ووقوعِ الفِتَن بين أهل المذاهب، وترك الاعتصام بالجماعة والائتلاف عليها؛ ولا يخفى أنَّ السقوط السياسيَّ يُفْضي إلى السقوط العلميِّ، ويتبعه السقوطُ الدِّينيُّ؛ ومِنْ نماذجِ ذلك: أنَّ المُحتلَّ الفرنسيَّ ألغى الشريعةَ والعملَ بها عَقِبَ احتلالِه الجزائرَ سنةَ: (١٢٤٦ﻫ ـ ١٨٣٠م)، وأَدخلَ القانونَ الفرنسيَّ في تونس سنةَ: (١٣٢٤ﻫ ـ ١٩٠٦م)، وفي المغرب الأقصى أَدخلَ القانونَ الفرنسيَّ سنةَ: (١٣٣١ﻫ ـ ١٩١٣م)، وغير ذلك ممَّا وَقَع في بلاد العرب والمسلمين مِنَ المُستعمِرين المحتلِّين.
● سَدِّ باب الاجتهاد وإحجامِ العلماء عن وُلوجه، والركونِ إلى التقليد والجمود، وانفكاكِ الصِّلَة العلميَّة بين علماء الأقطار والأمصار، وهو ما أدَّى إلى ضعف العلوم الشرعيَّة.
● عدم الانتفاع بنصوص الكتاب والسُّنَّة، والاستغناءِ عنهما بآراء الرجال وأقوالهم، والانتصارِ للمذاهب بالأحاديث المكذوبة والضعيفة والآراءِ الفاسدة، وجعلِ آراء المتبوعين ميزانًا للقَبول والرفض.
● انقطاع الصِّلَة بين الناس وبين الأئمَّة بسببِ طُرُق التأليف الفقهيِّ المُعقَّد، المتمثِّل في أنَّ مُعظَمَ المؤلَّفات ما هي إلَّا مُختصَراتٌ لمؤلَّفاتٍ أخرى، قد تكون بدورها مُختصَرةً، فتنقلب مَحشُوَّةً بالعديد مِنَ الفروع في عباراتٍ مُقتضَبةٍ وضيِّقةٍ تُشْبِهُ الألغاز؛ ومع قيام العلماء بالتباري في طريقة المتون التي سادَتْ مُعظَمَ البلاد إلى درجة الإبهام؛ هذا الوضع الذي دَفَع إلى إزالة الغموض والإشكال في المتون بشرحِها وفكِّ إغلاقها، وتضييعِ الوقت والجهد في شروحٍ مطوَّلةٍ، ثمَّ اختصارِ هذه الشروح في تراكيبَ فقهيَّةٍ عقيمةٍ.
(٤) ومِنْ نصوصِ بعضِ علماء المغرب العربيِّ في بلورةِ مناهج التعليم المُتمَحْوِرة على المذهب المالكيِّ في عهدِ بني عبد الواد الزيانيِّين وأثناءَ السيادة المرينيَّة ونفوذِها، قال المقريُّ الجدُّ ـ رحمه الله ـ: «ولقد استباح الناسُ النقلَ مِنَ المُختصَراتِ الغريبةِ أربابُها، ونَسَبوا ظواهِرَ ما فيها إلى أُمَّهاتها، وقد نبَّه عبدُ الحقِّ في «تعقيب التهذيب» على ما يمنع مِنْ ذلك لو كان مَنْ يسمع، وذيَّلْتُ كتابَه بمثلِ عددِ مسائله أَجْمَعَ، ثمَّ تركوا الروايةَ فكَثُر التصحيفُ وانقطعَتْ سلسلةُ الاتِّصال، فصارَتِ الفتاوى تُنْقَل مِنْ كُتُبِ مَنْ لا يدري ما زِيدَ فيها ممَّا نُقِص منها لعدَمِ تصحيحها وقلَّةِ الكشف عنها، ولقد كان أهلُ المائة السادسة وصدرِ السابعة لا يُسوِّغون الفتوى مِنْ «تبصرة الشيخ أبي الحسن اللخميِّ» لكونه لم يُصحَّحْ على مُؤلِّفه ولم يُؤخَذْ عنه، وأكثرُ ما يُعتمَد اليومَ ما كان مِنْ هذا النمط، ثمَّ انضاف إلى ذلك عدمُ الاعتبار بالناقلين، فصار يُؤخَذ مِنْ كُتُب المسخوطين كما يُؤخَذ مِنْ كُتُب المَرْضِيِّين، بل لا تكاد تجد مَنْ يُفرِّق بين الفريقين، ولم يكن هذا فيمَنْ قبلنا، فلقد تركوا كُتُبَ البراذعيِّ على نُبْلها، ولم يُستعمَلْ منها ـ على كرهٍ مِنْ كثيرٍ منهم ـ غيرُ «التهذيب» الذي هو «المدوَّنة» ـ اليومَ ـ لشهرةِ مسائله ومُوافَقتِه في أكثرِ ما خالف فيه «المدوَّنةَ» لأبي محمَّدٍ، ثمَّ كَلَّ أهلُ هذه المائةِ عن حالِ مَنْ قبلهم مِنْ حِفظ المُختصَرات وشَقِّ الشروح والأصولِ الكِبار، فاقتصروا على حفظِ ما قلَّ لفظُه ونَزُرَ حظُّه، وأَفنَوْا أعمارَهم في فهمِ رموزه وحَلِّ لُغوزه، ولم يَصِلوا إلى ردِّ ما فيه إلى أصوله بالتصحيح، فضلًا عن معرفة الضعيف مِنْ ذلك والصحيح، بل هو حَلُّ مُقْفَلٍ وفهمُ أمرٍ مُجْمَلٍ، ومُطالَعةُ تقييداتٍ زعموا أنها تَستنهِضُ النفوسَ، فبَيْنَا نحن نَستكبِرُ العدولَ عن كُتُبِ الأئمَّة إلى كُتُب الشيوخ؛ أُتِيحَتْ لنا تقييداتٌ للجَهَلة بل مُسوَّداتُ المُسوخ؛ فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون» [انظر: «نفح الطِّيب» للمقري الحفيد (٧/ ٢٧٢ ـ ٢٧٣)].
وقد عَقَد ابنُ خلدون ـ رحمه الله ـ فصلًا في [«مقدِّمته» (٢/ ١٠٢٨)] عَنْوَنه بقوله: «في أنَّ كثرة الاختصارات الموضوعةِ في العلوم مُخِلَّةٌ بالتعليم»، وفي فصلٍ آخَرَ [(٢/ ١٠٢١)] عَنْوَنه بقوله: «في أنَّ كثرة التآليف في العلوم عائقةٌ عن التحصيل»، وقال في هذا الفصلِ ما نصُّه: «اعْلَمْ أنه ممَّا أَضَرَّ بالناس في تحصيل العلم والوقوفِ على غاياته: كثرةُ التآليف واختلافُ الاصطلاحات في التعاليم وتعدُّدُ طُرُقها، ثمَّ مُطالَبةُ المتعلِّمِ والتلميذ باستحضارِ ذلك، وحينَئذٍ يُسلَّمُ له مَنْصِبُ التحصيل، فيحتاج المتعلِّم إلى حفظِها ـ كُلِّها أو أكثرِها ـ ومُراعاةِ طُرُقها، ولا يَفِي عمرُه بما كُتِب في صناعةٍ واحدةٍ إذا تَجرَّد لها، فيقع القصورُ ـ ولا بُدَّ ـ دون رتبة التحصيل، ويُمثَّلُ ذلك مِنْ شأن الفقه في المذهب المالكيِّ بالكُتُب المدوَّنة ـ مثلًا ـ وما كُتِب عليها مِنَ الشروحات الفقهية، مثل كتابِ ابنِ يونس واللخميِّ وابنِ بشيرٍ، و«التنبيهات» و«المقدِّمات» و«البيان والتحصيل على العتبية»، وكذلك «كتاب ابن الحاجب» وما كُتِب عليه، ثمَّ إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانيَّة مِنَ القرطبيَّة والبغداديَّة والمصريَّة وطُرُقِ المُتأخِّرين عنهم والإحاطةِ بذلك كُلِّه، وحينئذٍ يُسلَّمُ له مَنصِبُ الفُتْيا، وهي كُلُّها متكرِّرةٌ والمعنى واحدٌ، والمتعلِّمُ مُطالَبٌ باستحضارِ جميعِها وتمييزِ ما بينها، والعمرُ ينقضي في واحدٍ منها».
(٥) ما بين المعكوفتين عبارةُ: «عُمَرُ بْنُ عَبْدِ البَرِّ المُتَوَفَّى سَنَةَ: (٤٩٣)» في الأصل، وهو تصحيفٌ في اسْمِ الإمام وفي تاريخِ وفاته، والصوابُ ما أَثبتُّه على المتن، وقد تقدَّمت ترجمتُه.
(٦) كذا في الأصل، وفي كتاب «الجامع»: «عن».
(٧) هو أبو حنيفة النعمانُ بنُ ثابت بنِ زوطي التيميُّ الكوفيُّ، الإمام الفقيه المجتهد صاحبُ المذهب، له فضائلُ ومَناقِبُ عديدةٌ، ضعَّفه أئمَّةُ الحديث مِنْ جهة حفظه، ولا يحطُّ ذلك مُطلَقًا مِنْ قَدْرِه وجلالته في العلم والفقه الذي اشتهر به. تُوُفِّيَ ببغداد سنةَ: (١٥٠ﻫ).
انظر مصادِرَ ترجمته في: «مفتاح الوصول» للتلمساني ـ بتحقيقي ـ (٣٧٠)، ومؤلَّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٣٩٨).
(٨) هو أبو سليمان داود بنُ عليِّ بنِ خلفٍ البغداديُّ الظاهريُّ المعروف بالأصبهانيِّ، الحافظ المجتهد، كان إمامًا وَرِعًا ناسكًا زاهدًا متقلِّلًا، انتهَتْ إليه رئاسةُ العلم ببغداد في وقته، وكان مُعْجَبًا بالإمام الشافعيِّ، حيث صنَّف في فضائله والثناءِ عليه كتابَيْن، ثمَّ صار صاحِبَ مذهبٍ مُستقِلٍّ، وله تصانيفُ عديدةٌ منها: «كتاب الأصول» و«كتاب الإجماع» وكتاب «إبطال القياس» و«كتاب العموم والخصوص». تُوُفِّيَ سنةَ: (٢٧٠ﻫ).
انظر مصادِرَ ترجمته في: مؤلَّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٧٦).
(٩) هو أبو الحَكَمِ منذرُ بنُ سعيدٍ البلُّوطيُّ، مِنْ فحص البلُّوط: موضعٍ قريبٍ مِنْ قرطبة بالأندلس، كان متفنِّنًا في ضروب العلوم، وله رحلةٌ لَقِي فيها جماعةً مِنْ علماء اللغة والفقه، وله مُؤلَّفاتٌ منها: «كتاب الأحكام»، و«الناسخ والمنسوخ»، وَلِيَ قضاءَ الجماعة بقرطبة إلى أَنْ تُوُفِّيَ سنةَ: (٣٥٥ﻫ).
انظر ترجمته في: «طبقات النحويِّين واللغويِّين» للزبيدي (٢٩٥)، «اللُّبَاب» لأبي الحسن بنِ الأثير (١/ ١٧٦)، «إنباهُ الرُّوَاة» للقِفْطي (٣/ ٣٢٥)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١١/ ٢٨٨)، «المرقبة العُليا» للنُّباهي (٦٦)، «الروض المِعْطار» للحِمْيَري (٩٥).
(١٠) وفي الأصل: «اسمالك»، والتصحيح مِنْ «جامع بيان العلم وفضلِه».
(١١) والبلُّوطيُّ تَفقَّه بفقهِ أبي سليمان داودَ الأصبهانيِّ ـ رحمه الله ـ، وهو يُؤْثِرُ مذهبَه ويحتجُّ لمقالته، وكان جامعًا لكُتُبه، غيرَ أنه كان يقضي بمذهبِ مالكٍ وأصحابه إذا جَلَس مجلسَ الحكم والقضاء، [انظر: «طبقات النحويِّين» للزبيدي (٢٩٥)].
(١٢) «جامع بيان العلم وفضلِه» لابن عبد البرِّ (٢/ ١٧١ ـ ١٧٢).
(١٣) هذه المرحلة التي حدَّدها أهلُ العلم للفقه الإسلاميِّ إنما كانَتْ في الدَّوْر الرابع مِنْ تطوُّره الذي يَبتدِئُ مِنْ مُنتصَفِ القرن الرابع الهجريِّ وينتهي بسقوط بغداد سنةَ: (٦٥٦ﻫ)، وقد كان مِنْ أَهَمِّ نشاطات العلماء في هذا الدَّوْر: البحثُ عن عِلَل الأحكام التي ورَدَتْ عن الأئمَّة السابقين غيرَ معلَّلةٍ، والترجيح بين الآراء المُختلِفة في المذهب، ونصرة المذاهب إلى أبعدِ حدودٍ جملةً وتفصيلًا؛ ووَصَل فيها التعصُّبُ والمبالغةُ في التقليد والجمودِ على المذهب أَنْ حَمَل بعضَهم إلى النَّيْل مِنَ المُخالِفين.
(١٤) هذا اللفظُ وَرَد مِنْ طريقٍ فيها انقطاعٌ كما صرَّح به ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في «تفسيره» (١/ ٤٦٧)؛ ووَرَد مِنْ طريقٍ آخَرَ بلفظ: «كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ»؛ قال ابنُ كثيرٍ في «تفسيره» (١/ ٤٦٧): «إسناده جيِّدٌ قويٌّ». والحديث ضعَّفه الألبانيُّ في تحقيقِ «حقوق النساء» لمحمَّد رشيد رضا (١٣)، وقال: «في إسنادِ قصَّةِ المرأة هذه: مُجالِدُ بنُ سعيدٍ، وليس بالقويِّ ـ كما قال الحافظ في «التقريب»، وفي متنِها نكارةٌ» [وانظر: «تفسير القرطبي» (٥/ ٩٩)].
(١٥) هو محمَّد بنُ عبد الله بنِ محمَّدٍ المَعافِريُّ الإشبيليُّ، الشهير بأبي بكر بنِ العربيِّ المالكي، كان مِنْ كِبار علماء الأندلس، وَلِيَ قضاءَ إشبيليَّة، ثمَّ صُرِف مِنَ القضاء وأَقبلَ على نشر العلم، وله تصانيفُ شهيرةٌ منها: «العواصم مِنَ القواصم» و«أحكام القرآن» و«قانون التأويل» و«عارضة الأحوذي» و«المحصول في أصول الفقه». تُوُفِّيَ بالقرب مِنْ فاسٍ سنةَ: (٥٤٣ﻫ)، وحُمِل إليها ودُفِن بها.
انظر مصادِرَ ترجمته في: مؤلَّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٣٦١).
(١٦) «العواصم مِنَ القواصم» لأبي بكر بنِ العربيِّ ـ رحمه الله ـ كتابٌ مطبوعٌ ومُتداوَلٌ، وكان للشيخ عبد الحميد بنِ باديس ـ رحمه الله ـ السبقُ إلى نشره بقسنطينة في جزءَيْن: الجزء الأوَّل في سنةِ: (١٣٤٥ﻫ ـ ١٩٢٧م)، والجزء الثاني في سنةِ: (١٣٤٦ﻫ ـ ١٩٢٧م)، وقد اعتمد شيخُ النهضة الجزائريَّةِ على نسخةٍ مخطوطةٍ مزيدةٍ بجامع الزيتونة، وقد نَشَر الأديبُ مُحِبُّ الدِّينِ الخطيبُ عليه جزءًا منه وهو مبحث الصحابة رضي الله عنهم، ووُسِم بعنوان: «العواصم مِنَ القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم»، وقد حقَّقه وعلَّق على حواشِيه، ثمَّ طُبِع الطبعةَ الثانية في سنةِ: (١٣٧٥ﻫ)، ثمَّ راجعه محمود مهدي إستنبولي لتحقيقِ أحاديثِه وزيادةِ إثباتِ براءة الصحابة ممَّا نَسَبه إليهم الملاحدةُ والمُفسِدون، ثمَّ أَخرجَ الكتابَ كاملًا د. عمَّار طالبي تحت عنوان: «آراء أبي بكر بنِ العربي الكلاميَّة، ونَقْده للفلسفة اليونانيَّة»، وكانَتِ الطبعة الثانية منه في الجزائر سنةَ: (١٩٨١م).
(١٧) قُرْطُبة: المدينة الأندلسيَّة الشهيرة، أمُّ مدائنِ الأندلسِ ومُستقَرُّ خلافة الأمويِّين بها، تقع شمالَ مقاطعةِ «أندلوسيا» في جنوب الأندلس على بُعدِ ٤٠٠ كلم جنوبَ العاصمة مدريد.
انظر: «معجم البلدان» لياقوت (٤/ ٣٢٤)، «مراصد الاطِّلاع» للصفيِّ البغدادي (٣/ ١٠٧٨)، «الروض المِعْطار» للحِمْيَري (٤٥٦).
(١٨) طَلَمَنْكة: تقع في جنوبِ مقاطعةِ «كاستيل إليون» في شمال غرب الأندلس على بعد ٢١٢ كلم شمالَ غربِ العاصمة مدريد.
انظر: «مراصد الاطِّلاع» للصفيِّ البغدادي (٢/ ٨٩١)، «الروض المِعْطار» للحِمْيَري (٣٩٣).
(١٩) طَلَبِيرة: مدينةٌ أندلسيةٌ تابعةٌ لمقاطعةِ طُلَيْطلة، مشهورةٌ بصناعة الفخَّار.
انظر: «مراصد الاطِّلاع» للصفيِّ البغدادي (٢/ ٨٩٠)، «الروض المِعْطار» للحِمْيَري (٣٩٥).
(٢٠) طُلَيْطَلة: ضَبَطها الحُمَيْديُّ بضمِّ الطاءين وفتحِ اللامين، وأكثرُ ما سُمِعَ مِنَ المغاربة بضمِّ الأولى وفتحِ الثانية، مدينةٌ في أواسط الأندلس بالقرب مِنْ مدريد العاصمة، فَتَحها طارق بنُ زيادٍ، تقع في غربِ مقاطعةِ «كاستيل لمنشة» وسطَ الأندلس على بُعدِ ٧١ كلم جنوبَ غربِ العاصمة مدريد.
انظر: «مُعجَم البلدان» لياقوت (٤/ ٣٩)، «مراصد الاطِّلاع» للصفيِّ البغدادي (٢/ ٨٩٢)، «الروض المِعْطار» للحِمْيَري (٣٩٣).
(٢١) في الأصل: «وفقائها»، وهو تصحيفٌ ظاهرٌ.
(٢٢) «العواصم مِنَ القواصم» لابن العربي (٢/ ٤٩٢).
(٢٣) هكذا بدأَتِ النهضةُ الإصلاحيَّةُ في الجزائر، والدعوةُ إلى العناية بالتعليم الدِّينيِّ، وتخليصِ الفقه ممَّا عَلِقَ به مِنَ الجمود والتعصُّب لأقوال الرجال والانتصارِ لها وغلقِ باب الاجتهاد، حتَّى يَسَعَه متابعةُ نهوضِ الأُمَم والاستجابةُ لمطالب الحياة، وهذه الدعوةُ لا تخرج عن سائر الدَّعَوات الإصلاحيَّة في الأقطار الإسلاميَّة التي جاءَتْ في فتراتٍ مُتلاحِقةٍ بدءًا مِنَ القرنِ الثالثَ عَشَرَ الهجريِّ، حيث تلتقي أهدافُها ومَرامِيها على الإصلاح الدِّينيِّ والتربويِّ، الذي تظهر أَهَمُّ مَحاوِرِه في: الرجوع بالفقه والتعليم إلى مصادرِه الأولى، والاستفادةِ منه بأَجْمَعِه مِنْ غيرِ تقيُّدٍ بمذهبٍ معيَّنٍ، وذلك بالعناية بدراسة الفقه المقارن، والاهتمامِ بالدراسة الموضوعيَّة بأسلوبٍ سهلٍ واضحٍ، وتركِ التراكيب الفقهيَّة العقيمةِ والمعقَّدة أو التقليل منها، ومحاربةِ التقليد والتعصُّب والجمود، والدعوةِ إلى الاجتهاد الصحيح القائم على الإدراك العميق لأسرار الشريعة وأبعادِها ومَرامِيها، والفهمِ الدقيق لحِكَمها وتعليلاتها، والاستنادِ إلى الأدلَّة المُعتمَدة في استنباط الأحكام، وهي مِنْ أَهَمِّ وسائل التطوُّر في الفقه الإسلاميِّ الذي يُمكِّن المجتهدين مِنْ مواجهة النوازل والقضايا الشائكة والأحداثِ المعقَّدة بالحلول الوافِيَة في كُلِّ الأحوال وشتَّى الأوضاع، ومُختلفِ الأزمنة والأمكنة.
===================
الجزائر في: ٠١ مِنَ المحرَّم ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٣١ يناير ٢٠٠٦م
http://ferkous.com/home/?q=art-mois-138
===================
الجزائر في: ٠١ مِنَ المحرَّم ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٣١ يناير ٢٠٠٦م
http://ferkous.com/home/?q=art-mois-138
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق