أحدث المواضيع

الخميس، 20 مايو 2021

السلفية منهجُ الإسلام وليسَتْ دعوةَ تحزُّبٍ وتفرُّقٍ وفساد

 

السلفية منهجُ الإسلام
وليسَتْ دعوةَ تحزُّبٍ وتفرُّقٍ وفساد

لشيخنا الفاضل العلامة محمد علي فركوس حفظه الله

 https://ferkous.com/home/?q=art-mois-22

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقد وردَ على موقعِي الرسميِّ انتقادٌ آخرُ، يحمل في طيَّاته شبهاتٍ مكذوبةً على الدعوةِ السلفيةِ بأنها دعوةٌ حزبيةٌ مفرِّقةٌ مبتدعةٌ تجرُّ الفتنَ، وأنَّ التغيير لا يحصل بالفتنة، وقد رأيتُ من المفيد أن أردَّ على شبهاته المزعومةِ ومفاهيمه الباطلة بتوضيحها بالحقِّ والبرهان، عملًا بقوله تعالى: ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨[الأنبياء].

[وهذا نصُّ انتقاده]:

«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛

أراسلُكَ وأنا أعلم يقينًا بأنَّ الشيخ فركوس عبدٌ من عباد الله ونحسبُك من المتَّقين.

١ ـ إطلاق لفظ السلفية على الفرقة الناجية: ألا يُعتبر هذا حزبيةً؟ وأنت تعلم أنَّ القرآن فيه لفظ الإسلام كما قال الله تعالى: ﴿تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١[يوسف].

٢ ـ لا أشكُّ أنَّ كثيرًا من المسلمين يعتقدون أنَّ السلفيَّ هو لِحيةٌ وقميصٌ، وماذا عن حالق لحيته؟ ألا يدخل الجنَّةَ حنفيٌّ… ؟! إنَّ اسمَ السلفية فرَّقت فأَبْصِرْ..! ما هو الدليل القاطع على وجوب التسمية للفرقة الناجية ؟

إنَّ التغيير لا يكون بالدخول في الفتن أي: الشبهات، ولو يجلس الشيخ فركوس في مسجده لكان خيرًا له، وما النصر إلَّا من عند الله، ومن سمَّع سمَّعَ اللهُ به، و﴿مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٩٠[يوسف]».

فأقول ـ وبالله التوفيق وعليه التكلان ـ:

إنَّ السلفيةَ تُطلَقُ ويرادُ بها أحد المعنيين:

الأوَّل: مرحلةٌ تاريخيةٌ معيَّنةٌ تختصُّ بأهل القرون الثلاثة المفضَّلة، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم«خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(١)، وهذه الحِقبة التاريخيةُ لا يصحُّ الانتساب إليها لانتهائها بموت رجالها.

والثاني: الطريقةُ التي كان عليها الصحابةُ والتابعون ومَن تبعهم بإحسانٍ مِن التمسُّك بالكتاب والسُّنَّة وتقديمِهما على ما سواهما، والعملِ بهما على مقتضى فهم السلف الصالح، والمرادُ بهم: الصحابة والتابعون وأتباعهم من أئمَّة الهدى ومصابيحِ الدُّجَى، الذين اتَّفقتِ الأُمَّة على إمامتهم وعدالتهم، وتَلَقَّى المسلمون كلامَهم بالرِّضا والقَبول كالأئمَّة الأربعة، والليثِ ابنِ سَعْدٍ، والسُّفيانَين، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ، والبخاريِّ، ومسلمٍ وغيرِهم، دون أهلِ الأهواء والبدعِ ممَّن رُمي ببدعةٍ أو شُهِرَ بلقبٍ غيرِ مرضيٍّ، مثل: الخوارج والروافض والمعتزلة والجبرية وسائر الفِرَق الضالَّة. وهي بهذا الإطلاق تُعَدُّ منهاجًا باقيًا إلى قيام الساعة، ويصحُّ الانتسابُ إليه إذا ما التُزِمت شروطُهُ وقواعِدُهُ، فالسلفيون هم السائرون على نهجهم المُقْتَفُونَ أثرَهم إلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها، سواءٌ كانوا فقهاءَ أو محدِّثين أو مفسِّرين أو غيرَهم، ما دام أنهم قد التزموا بما كان عليه سلفُهم من الاعتقاد الصحيح بالنصِّ من الكتاب والسنَّة وإجماع الأمَّة والتمسُّك بموجبها من الأقوال والأعمال لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(٢)، ومن هذا يتبيَّن أنَّ السلفيةَ ليست دعوةً طائفيةً أو حزبيةً أو عِرقيةً أو مذهبيةً يُنَزَّل فيها المتبوعُ مَنْزِلةَ المعصوم، ويُتَّخذ سبيلًا لجعلِه دعوةً يُدعى إليها ويُوالى ويعادى عليها، وإنما تدعو السلفيةُ إلى التمسُّك بوصيَّة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم المتمثِّلة في الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة وما اتَّفقت عليه الأمَّة، فهذه أصولٌ معصومةٌ دون ما سواها.

وهذا المنهج الربانيُّ المتكاملُ ليس من الحزبية الضيِّقةِ التي فرَّقت الأمَّةَ وشتَّتَتْ شملَها، وإنما هو الإسلام المصفَّى، والطريقُ القويمُ القاصدُ الموصِلُ إلى الله، به بعث اللهُ رُسُلَه وأنزل به كُتُبَه، وهو الطريقُ البيِّنةُ معالِمُه، المعصومةُ أصولُه، المأمونةُ عواقِبُه.

أمَّا الطرقُ الأخرى المستفتِحة من كلِّ بابٍ فمسدودةٌ، وأبوابها مغلقةٌ إلَّا من طريقٍ واحدٍ، فإنه متَّصلٌ بالله موصلٌ إليه، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦ[الأنعام: ١٥٣]، وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه«خَطَّ لنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطًّا ثمَّ قال: «هَذَا سَبِيلُ اللهِ» ثمَّ خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثمَّ قال: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦ(٣)، وقد جاء في «تفسير ابنِ كثيرٍ»(٤)«أنَّ رجلًا قال لابن مسعودٍ رضي الله عنه: ما الصراطُ المستقيم ؟ قال: تركنا محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم في أدناه وطَرَفُه في الجنَّة، وعن يمينه جوادُّ(٥) وعن يساره جوادُّ، وثَمَّ رجالٌ يَدْعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنَّة، ثمَّ قرأ ابن مسعودٍ الآية».

وعليه يُدرك العاقلُ أنه ليس من الإسلام تكوينُ أحزابٍ متصارعةٍ ومتناحرةٍ ﴿كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٥٣[المؤمنون]، فقد ذمَّ الله التحزُّبَ والتفرُّق في آياتٍ منها: قولُه تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ ١٥٩[الأنعام]، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ[آل عمران: ١٠٥]، وإنما الإسلام حزبٌ واحدٌ مفلحٌ بنصِّ القرآن، قال تعالى: ﴿أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٢٢[المجادلة]، وأهلُ الفلاح هم الذين جعل الله لهم لسانَ صِدْقٍ في العالمين، ومقامَ إحسانٍ في العِلِّيِّين، فساروا على سبيل الرشاد الذي تركنا عليه المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم الموصلِ إلى دار الجِنان، بيِّنٌ لا اعوجاج فيه ولا انحراف، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى البَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِها لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»(٦).

واللهُ سبحانه وتعالى إِذْ سَمَّى في كتابه الكريمِ الرعيلَ الأوَّلَ ﺑ «المسلمين» فلأنَّ هذه التسميةَ جاءت مطابقةً لِما كانوا عليه من التزامهم بالإسلام المصفَّى عقيدةً وشريعةً، فلم يكونوا بحاجةٍ إلى تسميةٍ خاصَّةٍ إلَّا ما سمَّاهم اللهُ به تمييزًا لهم عمَّا كان موجودًا في زمانهم من جنس أهل الكفر والضلال، لكنَّ ما أحدثه الناس بعدهم في الإسلام من حوادثَ وبدعٍ وغيرها ممَّا ليس منه، سلكوا بها طُرُقَ الزيغ والضلال، فتفرَّقت بهم عن سبيل الحقِّ وصراطه المستقيم، فاقتضى الحالُ ودَعَتِ الحاجةُ إلى تسميةٍ مُطابقةٍ لِمَا وَصَفَ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الفرقةَ الناجيةَ بقوله: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»(٧)، ومتميِّزةٍ عن سُبُل أهل الأهواء والبدع ليستبين أهلُ الهدى من أهل الضلال. فكان معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ[الحج: ٧٨]، إنما هو الإسلام الذي شرعه الله لعباده مجرَّدًا عن الشركيات والبدعيات، وخاليًا من الحوادث والمنكرات في العقيدة والمنهج، ذلك الإسلام الذي تنتسب إليه السلفية وتلتزم عقيدتَه وشريعتَه وتؤسِّسُ دعوتَها عليه، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ«لا عيبَ على مَن أظهر مذهبَ السلفِ وانتسبَ إليه واعتزى إليه، بل يجب قَبول ذلك منه بالاتِّفاق، فإنَّ مذهبَ السلفِ لا يكون إلَّا حقًّا»(٨).

هذا، وللسلفية ألقابٌ وأسماءٌ تُعْرَف بها، تنصبُّ في معنًى واحدٍ، فهي تتَّفق ولا تفترق وتأتلف ولا تختلف، منها: «أصحاب الحديث والأثر» أو «أهل السُّنَّة» لاشتغالهم بحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وآثار أصحابه الكرام رضي الله عنهم مع العمل على التمييز بين صحيحِها وسقيمها وفهمها وإدراك أحكامها ومعانيها، والعملِ بمقتضاها، والاحتجاجِ بها. وتسمَّى ﺑ «الفرقة الناجية» لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إِنَّ بَنِي إِسرائيلَ افْتَرَقُوا على إِحْدَى وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً» فقيل له: ما الواحدة ؟ قال: «مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ وَأَصْحَابِي»(٩). وتسمَّى ـ أيضًا ـ ﺑ «الطائفة المنصورة» لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(١٠). وتسمَّى ﺑ «أهل السُّنَّة والجماعة» لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم«يَدُ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ»(١١)، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم«فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(١٢)، وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم«كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الجَمَاعَةُ»(١٣)، والمراد بالجماعة هي الموافِقةُ للحقِّ الذي كانت عليه الجماعةُ الأولى: جماعةُ الصحابة رضي الله عنهم، وهو ما عليه أهلُ العلم والفقه في الدِّين في كلِّ زمانٍ، وكلُّ من خالفهم فمعدودٌ من أهلِ الشذوذِ والفُرقة وإن كانوا كثرةً، قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه«إِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ فَارَقُوا الجَمَاعَةَ، وَإِنَّ الجَمَاعَةَ مَا وَافَقَ الحَقَّ وَإِنْ كُنْتَ وَحْدَكَ»(١٤)، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصف الفِرقةَ الناجيةَ بقوله: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»(١٥)، وهذا التعيين بالوصف يدخل فيه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه دخولًا قطعيًّا ولا يختصُّ بهم بل هو شاملٌ لكلِّ من أتى بأوصاف الفِرقة الناجية إلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مَعْرِض تعيين الفرقة الناجية: «وبهذا يتبيَّن أنَّ أحقَّ الناس بأن تكون هي الفرقةَ الناجية: أهلُ الحديث والسنَّة، الذين ليس لهم متبوعٌ يتعصَّبون له إلَّا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمُهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمَّتهم فقهاء فيها وأهل معرفةٍ بمعانيها، واتِّباعًا لها: تصديقًا وعملًا وحبًّا وموالاةً لمن والاها ومعاداةً لمن عاداها، الذين يَردُّون(١٦) المقالاتِ المجملةَ إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالةً ويجعلونها من أصول دينهم وجُمل كلامهم إن لم تكن ثابتةً فيما جاء به الرسولُ، بل يجعلون ما بُعِثَ به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصلَ الذي يعتقدونه ويعتمدونه»(١٧).

هذا، ولا يعاب التسمِّي ﺑ «السلفية» أو ﺑ «أهل السنَّة والجماعة» أو ﺑ «أهل الحديث» أو ﺑ «الفِرقة الناجية» أو «الطائفة المنصورة»؛ لأنه اسمٌ شرعيٌّ استعمله أئمَّة السلف وأطلقوه بحسَب الموضوع إمَّا في مقابلة «أهل الكلام والفلسفة» أو في مقابلة «المتصوِّفة والقبوريين والطُّرُقيِّين والخُرافِيِّين»، أو تُطلق بالمعنى الشامل في مقابَلة «أهل الأهواء والبدع» من الجهمية والرافضة والمعتزلة والخوارج والمرجئة وغيرِهم.

لذلك لمَّا سُئل الإمام مالكٌ ـ رحمه الله ـ: مَن أهلُ السُّنَّة ؟ قال: «أهل السُّنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرَفون به، لا جهميٌّ ولا قَدَرِيٌّ ولا رافضيٌّ»(١٨)، ومراده ـ رحمه الله ـ أنَّ أهل السُّنَّة التزموا الأصلَ الذي كان عليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه، وبَقُوا متمسِّكين بوصيَّته صلَّى الله عليه وسلَّم من غير انتسابٍ إلى شخصٍ أو جماعةٍ. ومن هنا يُعْلَم أنَّ سبب التسمية إنما نشأ بعد الفتنة عند بداية ظهور الفِرَق الدينية ليتميَّز أهلُ الحقِّ من أهل الباطل والضلال.

وقد أشار ابنُ سيرين ـ رحمه الله ـ إلى هذا المعنى بقوله: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلمَّا وقعتِ الفتنةُ قالوا: سَمُّوا لنا رجالَكم، فيُنظرُ إلى أهل السُّنَّة فيؤخذ حديثُهم، ويُنظر إلى أهل البِدَع فلا يؤخذ حديثُهم»(١٩)، هذا الأمر الذي دعا العلماءَ الأثباتَ والأئمَّةَ الفحولَ إلى تجريد أنفسهم لترتيب الأصول العظمى والقواعدِ الكبرى للاتِّجاه السلفيِّ والمعتقد القرآنيِّ، ومن ثَمَّ نسبتِه إلى السلف الصالح لحسمِ البدعة وقطعِ طريق كلِّ مبتدعٍ. قال الأوزاعيُّ ـ رحمه الله ـ«اصبر نفسك على السنَّة، وقِفْ حيث وقف القوم، وقُلْ بما قالوا، وكُفَّ عمَّا كفُّوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يَسَعُك ما وَسِعهم»(٢٠).

هذا، والسلفية إذ تحارب البدعَ والتعصُّبَ المذهبيَّ والتفرُّقَ إنما تتشدَّد في الحقِّ والأخذ بعزائم الأمور والاستنان بالسنن وإحياء المهجورة منها، فهي تؤمن بأنَّ الإسلامَ كُلَّه حقٌّ لا باطل فيه، وصدقٌ لا كذب فيه، وَجِدٌّ لا هزل فيه، ولُبٌّ لا قشورَ فيه، بل أحكامُ الشرع وهديُه وأخلاقُه وآدابُه كلُّها من الإسلام سواءٌ مبانيه وأركانه أو مظاهره من: تقصير الثوب وإطالة اللحية والسواك والجلباب ونحو ذلك، كلُّها من الدِّين. والله تعالى يأمرنا بخصال الإسلام جميعًا وينهانا عن سلوك طريق الشيطان، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ ٢٠٨ [البقرة]، وقد ذمَّ الله تعالى بني إسرائيلَ الذين التزموا ببعض ما أُمروا به دون البعض بقوله تعالى: ﴿أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖ [البقرة: ٨٥].

والحكم المسبق على المعيَّن بدخول النار والمنعِ من دخول الجنَّة بتركه للهدي الظاهريِّ للإسلام ليس من عقيدة أهل السُّنَّة لكونه حُكمًا عينيًّا استأثر الله به، لا يشاركه فيه غيره، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أنَّ استحقاقَ الجنَّة ودخولَها إنما يكمن في إخلاص العبادة لله سبحانه واتِّباعِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد ذمَّ الله تعالى مقالةَ أهل الكتاب في قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١١١ بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ١١٢[البقرة].

فالسلفيةُ لا تهوِّن من شأن السنَّة مهما كانت، فلا تُهدر من الشرع شيئًا ولا تهمل أحكامَه، بل تعمل على المحافظة على جميع شرعه: علمًا وعملًا ودعوةً قَصْدَ بيانِ الحقِّ وإصلاحِ الفساد، وقد أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الغرباء: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(٢١).

والسلفيةُ ليست بدعوةٍ مُفرِّقةٍ، وإنما هي دعوةٌ تهدف إلى وحدة المسلمين على التوحيد الخالص، والاجتماعِ على متابعة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، والتزكيةِ بالأخلاق الحسنة، والتحلِّي بالخصال الحميدة، والصدعِ بالحقِّ وبيانِه بالحجَّة والبرهان، قال تعالى: ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡ[الكهف: ٢٩]، فقد كان من نتائج المنهج السلفيِّ: اتِّحادُ كلمة أهل السُّنَّة والجماعة بتوحيد ربِّهم، واجتماعُهم باتِّباع نبيِّهم، واتِّفاقُهم في مسائل الاعتقاد وأبوابه قولًا واحدًا لا يختلف مهما تباعدت عنهم الأمكنة واختلفت عنهم الأزمنة، ويتعاونون مع غيرهم بالتعاون الشرعيِّ الأخويِّ المبنيِّ على البرِّ والتقوى والمنضبط بالكتاب والحكمة.

هذا، والسلفية تتبع رسولَها في الصدع بكلمة الحقِّ ودعوة الناس إلى الدين الحقِّ، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ [النحل: ٤٤]، والبقاء في البيوت والمساجد من غير تعليمٍ ولا دعوةٍ إخلالٌ ظاهرٌ بواجب الأمانة وتبليغِ رسالات الله وإيصالِ الخير إلى الناس، قال تعالى: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ[آل عمران: ١٨٧]، فيجب على الداعية أن يدعوَ إلى شهادة أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له: يدعو إلى الله بها على علمٍ ويقينٍ وبرهانٍ على نحو ما دعا إليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قال تعالى: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨[يوسف]، والعلم إذا لم يَصْحَبْهُ تصديقٌ ولم يؤازِرْهُ عملٌ وتَقْوَى لا يُسَمَّى بصيرةً، فأهلُ البصيرةِ هم أولو الألباب كما قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨[الزمر].

ومن منطلق الدعوة إلى الإسلام المصفَّى من العوائد والبدع والمحدَثات والمنكرات كان الانتسابُ إلى «أهل السُّنَّة والجماعة» أو «السلفية» عِزًّا وشَرَفًا ورمزًا للافتخار وعلامةً على العدالة في الاعتقاد، خاصَّةً إذا تجسَّد بالعمل الصحيح المؤيَّد بالكتاب والسنَّة، لكونها منهجَ الإسلام في الوحدة والإصلاح والتربية، وإنما العيب والذمُّ في مخالفة اعتقاد مذهب السلف الصالح في أيِّ أصلٍ من الأصول، لذلك لم يكن الانتساب إلى السلف بدعةً لفظيةً أو اصطلاحًا كلاميًّا، لكنَّه حقيقةٌ شرعيةٌ ذات مدلولٍ محدَّدٍ..

وأخيرًا؛ فالسلف الصالح هم صفوة الأمَّة وخيرها، وأشدُّ الناس فرحًا بسنَّة نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم وأقواهم استشعارًا لنعمة الإسلام وهدايته التي منَّ الله بها عليهم، ممتثلين لأمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته، قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٧ قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٥٨[يونس]، قال ابن القيِّم رحمه الله تعالى: «الفرح بالعلم والإيمان والسنَّة دليلٌ على تعظيمه عند صاحبه، ومحبَّتِه له، وإيثارِه له على غيره، فإنَّ فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبَّته له ورغبته فيه، فمَن ليس له رغبةٌ في الشيء لا يُفرحه حصولُه له، ولا يُحزنه فواتُه، فالفرح تابعٌ للمحبَّة والرغبة»(٢٢).

 

نسأل اللهَ أن يُعِزَّ أولياءَه، ويُذِلَّ أعداءَه، ويهديَنا للحقِّ، ويرزقَنا حقَّ العِلم وخيرَه وصوابَ العمل وحَسَنَه، فهو حَسْبُنَا ونعم الوكيل، وعليه الاتِّكال في الحال والمآل، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

 

الجزائر في: ١١ جمادى الأولى ١٤٢٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٨ ماي ٢٠٠٧م

 


(١) أخرجه البخاري في «الشهادات» باب لا يشهد على شهادة جَوْرٍ إذا أُشهد (٢٦٥٢)، ومسلم في «فضائل الصحابة» (٢٥٣٣)، من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه.

(٢) أخرجه مسلم في «الإمارة» (١٩٢٠) من حديث ثوبان رضي الله عنه.

(٣) أخرجه الدارمي في «سننه» (٢٠٨)، وابن حبَّان في «صحيحه»(٦)، والحاكم في «المستدرك» (٣٢٤١)، وأحمد (٤١٤٢)، من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه. وصحَّحه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد» (٦/ ٨٩)، وحسَّنه الألباني في «المشكاة» (١٦٦).

(٤) (٢/ ١٩١).

(٥) الجوادُّ: جمع جادَّةٍ، وهي معظم الطريق، وأصل الكلمة من جدَدَ. [«النهاية» لابن الأثير (١/ ٣١٣)].

(٦) أخرجه ابن ماجه في «المقدِّمة» باب اتِّباع سنَّة الخلفاء الراشدين (٤٣) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. وحسَّنه المنذري في «الترغيب والترهيب» (١/ ٤٧)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٩٣٧).

(٧) أخرجه الترمذي في «الإيمان» باب ما جاء في افتراق هذه الأمَّة (٢٦٤١)، من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما. قال العراقي في «تخريج الإحياء» (٣/ ٢٨٤) «أسانيدها جيادٌ»، والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح الجامع» (٥٣٤٣).

(٨) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ٩١).

(٩) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٤٤٤)، من حديث عبد الله ابن عمرٍو رضي الله عنهما. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في «مجموع الفتاوى» (٣/ ٣٤١): «الحديث صحيحٌ مشهورٌ في السنن والمساند»، وانظر «السلسلة الصحيحة» للألباني (١/ ٤٠٧).

(١٠) سبق تخريجه في (الهامش ٢).

(١١) أخرجه الترمذي في «الفتن» باب ما جاء في لزوم الجماعة (٢١٦٦)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما. وصحَّحه الألباني في «المشكاة» الهامش رقم (٥)، من (١/ ٦١).

(١٢) أخرجه البخاري في «الفتن» باب قول النبيِّ: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» (٧٠٥٤)، ومسلم في «الإمارة» (١٨٤٩)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(١٣) أخرجه أبو داود في «السنَّة» باب شرح السنَّة (٤٥٩٧)، والحاكم في «المستدرك» (٤٤٣)، وأحمد (١٦٩٣٧)، والطبراني في «الكبير» (١٩/ ٣٧٧)، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٢٠٤).

(١٤) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٤٩/ ٢٨٦). وصحَّحه الألباني في «المشكاة» (١/ ٦١).

(١٥) سبق تخريجه، انظر (الهامش ٧).

(١٦) في الأصل: «يروون»، ولعلَّ الصواب ما أثبتناه.

(١٧) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣/ ٣٤٧).

(١٨) «الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء» لابن عبد البرِّ (٣٥)،«ترتيب المدارك» للقاضي عياض (١/ ١٧٢).

(١٩) رواه مسلم في «مقدِّمة صحيحه» (١/ ٨).

(٢٠) «الشريعة» للآجرِّي (٥٨).

(٢١) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (٣٠٥٦)، من حديث سهل ابن سعدٍ رضي الله عنهما، وأخرجه أبو عمرٍو الداني في «الفتن» (٢٥/ ١)، من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٣/ ٢٦٧) رقم (١٢٧٢).

(٢٢) «مدارج السالكين» لابن القيِّم (٣/ ١٥٨).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق